( المسألة الرابعة عشر ) جرت عادة الفقهاء في أن يقولوا إذا ورد النص [ ص: 106 ] بصيغة أو فهي على التخيير كقوله تعالى { الكفارات هل هي على التخيير أو على الترتيب فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } وإن كان النص بصيغة من الشرطية فهي على الترتيب كقوله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } ولا تكاد تجد فقيها ينازع في هذا وهو غير صحيح وبيانه أن مقتضى ما ذكروه أن يكون قوله تعالى { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } أن لا تجوز إلا عند عدم الرجلين وقد أجمعت الأمة على جوازه عند وجود الرجلين وأن عدمهما ليس شرطا فنستفيد من هذه الآية سؤالين عظيمين : أحدهما أن الصيغة لا تقتضي الترتيب وثانيهما أن لا يلزم من عدم الشرط عدم المشروط وهو خلاف الإجماع وهو ها هنا كذلك . شهادة رجل وامرأتين
وكذلك قولنا إن لم يكن العدد زوجا فهو فرد وإن لم يكن فردا فهو زوج مع أنه لا يتوقف العدد الزوج على عدم الفرد ولا الفرد على عدم الزوج بل هو واجب الثبوت في نفسه وجد الآخر أم لا وإذا انتفى الشرط وهو قولنا إن لم يكن العدد زوجا كانت الخمسة فردا قطعا فإن وجود الزوجية في العدد لا ينافي الفردية فيه ووجود الفردية فيه لا ينافي الزوجية فيه فعدم هذا الشرط لا أثر له ألبتة في عدم هذا المشروط وكقولنا إن لم يكن هذا جمادا فهو إما نبات أو حيوان وإن لم يكن هذا الحيوان ناطقا فهو بهيم مع أن البهيم في نفسه لا يتوقف على عدم الناطق بل إذا فرض الناطق ناطقا كان البهيم بهيما بالضرورة وبهذا يعلم أن نظائره كثيرة جدا ولا ترتيب فيها ولم يلزم فيها من عدم الشرط عدم المشروط بل المشروط حق في نفسه ووقع سواء وجد هذا الشرط أم لا فإن قلت : عدم الزوجية عن العدد شرط في ثبوت الفردية له فلو كان زوجا لم تثبت له الفردية فقد لزم من عدم الشرط عدم المشروط وكذلك بقية النظائر قلت : ليس مراد الناس من هذه الإطلاقات إثبات شرطية عدم الزوجية في الفردية بل الزوج زوج في نفسه لذاته من غير شرط وكذلك الفرد [ ص: 107 ] ولا نقول يشترط في كون العشرة زوجا عدم الفردية عنها فإنها لا تقبل الفردية أيضا فكيف تتوهم الشرطية والمعترض في موطن العقل قاطع وجازم بثبوت ذلك المعنى في نفسه وجوبا ذاتيا وإنما يقصد العقلاء في ذلك الموطن الذي يقبل النقيض بل مقصود الناس في هذه المواطن والموارد بيان انحصار تلك المادة في المذكور فأنت تقول : إذا انتفى الفرد بقي العدد محصورا في الزوج .
وإذا انتفى الزوج بمعنى إن لم يكن الواقع من العدد ما هو زوج تعين أن يكون الواقع ما هو فرد ولأجل ذلك لا يقولون ذلك إلا في المواطن التي يصح فيها الحصر فلا يقولون : إن لم يكن إنسانا فهو فرس لعدم انحصار الباقي من الحيوان بعد الإنسان في الفرس ولو كان المقصود ما ذكرتموه من الشرطية لكان الكلام صحيحا فإن عدم الإنسانية شرط في الفرسية لتعذر اجتماعهما بل لما كان المقصود بيان الحصر بطل الكلام لعدم الحصر في المذكور فتأمل هذا الموضع فهو صعب دقيق وعلى هذا يكون المراد في الآية انحصار الحجة التامة من الشهادة بعد الرجلين في الرجل والمرأتين فإنه لا حجة تامة من الشهادة في الشريعة إلا الرجلين والرجل والمرأتين هذا هو المجمع عليه وأما عند شهادة الصبيان وشهادة أربع نسوة وشهادة المرأتين وحدهما فيما ينفردان فيه كالولادة فهذه الآية حجة على بطلانها لدلالتها على الحصر في الرجل والمرأتين إلا أن يقال إن الآية إنما سيقت في إثبات الديون والأموال لا الأبدان وجميع هذه الصور في أحكام الأبدان فالحصر حق في الأموال ولم يخالفه أحد ولا تدل على بطلان هذه الصور وأما الشاهد واليمين والنكول وغير ذلك فلم تكمل فيه الحجة من الشهادة بل لا شهادة فيه ألبتة كاليمين والنكول أو بعضه شهادة فقط كالشاهد واليمين فلا توجد حجة تامة مجمع عليها إلا بتينك الحجتين فإذا فرض عدم أحدهما تعين الحصر في الأخرى وإذا وضح لك أن الشرط كما يستعمل في الترتيب فكذلك يستعمل في إثبات الحصر . الشافعي
والكل حقيقة لغوية فيكون التعليق أعم من الدلالة على الترتيب والدال على الأعم غير دال على الأخص كالحيوان لا يدل على الإنسان والإنسان لا يدل على الرجل والرجل لا يدل على المؤمن فلا يستقيم الاستدلال بصيغة التعليق التي هي أعم من الترتيب على الترتيب بل لا بد من قرائن أخرى وضمائم تضاف لصيغة التعليق حتى تفيد الترتيب وأن ضابط ما يتوقف فيه المشروط على الشرط الشرط الذي لا يراد به الحصر أما متى أريد به الحصر فلا فافهم هذا الموضع فهو من نفائس العلم وجوهره ودقيق المباحث وفيه التنبيه على أنه لا يلزم من عدم الشرط عدم المشروط وأن استدلال الفقهاء به على الترتيب لا يصح كما وضح لك بيانه والله أعلم .