( فصل ) :
قد تقدم تذييل الإنشاء بمسائل توضحه وهي حسنة في بابها فنذيل الخبر أيضا بثمان مسائل غريبة مستحسنة في بابها تكون طرفة للواقف . المسألة الأولى إذا قيل هذا القول يلزم منه أمران محالان عقلا : أحدهما ارتفاع الصدق والكذب عن الخبر وهما خصيصة من خصائصه ، وارتفاع خصيصة الشيء عنه مع بقائه محال بيانه أن هذا الخبر لا يكون صدقا ؛ لأن الصدق هو الخبر المطابق ، والمطابقة أمر نسبي لا يكون إلا بين شيئين ، ولم يتقدم له في هذا البيت [ ص: 54 ] خبر آخر حتى تقع المطابقة بينه وبين هذا الخبر فلا يكون صدقا . قال كل ما قلته في هذا البيت كذب ولم يقل شيئا في ذلك البيت
وأما أنه ليس بكذب فلأن الكذب هو عدم المطابقة بين الخبر والمخبر عنه ، وعدم المطابقة بين الشيئين فرع تقررهما .
ولم يتقدم في هذا البيت خبر صدق حتى يكون الإخبار عنه بأنه كذب كذبا فلا يكون هذا الخبر صدقا ولا كذبا وهو محال ؛ لأنه خبر والخبر لا بد أن يكون صدقا أو كذبا ، والمحال الثاني أنه لا يلزم من هذا الخبر ارتفاع النقيضين وارتفاعهما محال عقلا لأنه خبر والخبر لا بد أن يكون صدقا أو كذبا ، بيانه أن الصدق عبارة عن المطابقة ، والكذب عبارة عن عدم المطابقة ، والمطابقة وعدمها نقيضان وقد تقدم أن هذا الخبر ليس بصدق ولا كذب فيكون النقيضان قد ارتفعا عنه وهو محال ، وهذا الإشكال من الأسئلة الصعبة الدقيقة التي يحتاج الجواب عنها إلى فكر دقيق ونظر عويص .
والجواب أن نختار أن هذا الخبر كذب ، وتقريره أن الكذب هو القول الذي ليس بمطابق وعدم المطابقة يصدق بطريقين : أحدهما أن يوجد في نفس الأمر المخبر عنه على خلاف ما في الخبر كمن قال زيد قائم وهو ليس بقائم فهذا كذب ؛ لأنه قول غير مطابق ، وثانيهما أن لا يوجد في [ ص: 55 ] نفس الأمر شيء ألبتة فيصدق أيضا عدم المطابقة لعدم ما يطابقه الخبر لا لمخالفته لما وجد كما أن الله تعالى لو خلق زيدا وحده في العالم صدق عليه أنه لم يوافق أحدا في معتقده .
وأنه لم يخالف أحدا في معتقده فإن الموافقة والمخالفة للغير فرع وجود ذلك الغير فإذا لم يوجد ذلك الغير انتفت الموافقة له والمخالفة كذلك نقول هاهنا لما لم يوجد خبر آخر في هذا البيت صدق على هذا الخبر وهو قوله : كل ما قلته في هذا البيت كذب أنه غير مطابق لانتفاء ما تقع المطابقة معه فهو كذب جزما ، وكذلك ينبغي لك أن تفهم من قولنا أن الكذب هو القول الذي ليس بمطابق هذا المعنى العام الذي يصدق بطريقين وجد شيء يخالفه الخبر أو لم يوجد شيء ألبتة غير أن غالب الاستعمال هو القسم الأول ، والمذهب المشهور أنه لا واسطة بين الصدق والكذب بناء على هذا المعنى العام ، وكذلك نجيب عن ارتفاع النقيضين بأن نقول الواقع منهما عدم المطابقة بالتفسير العام المتقدم ، ذكره ومثل هذا الخبر فهذا الخبر كذب قطعا ؛ لأنه إن أراد الأخبار المتقدمة في عمره فهو كاذب ؛ لأنها كانت صدقا وإن أراد هذا الأخير وحده فهو ليس بصدق لعدم خبر آخر يطابقه ، وهو قد أخبر أنه غير مطابق لنفسه فهو مخبر أن خبره هذا الأخير خبران : أحدهما غير مطابق للآخر وهو ليس خبرين فيكون كذبا قطعا سواء أراد الأخبار المتقدمة أو أراد هذا الخبر هذا الذي اعتمده قوله كل ما تكلمت به في جميع عمري كذب ، وكان لم يكذب قط الإمام فخر الدين وغيره [ ص: 56 ] والذي أعتقده أن هذا الخبر لا يقطع بكذبه لجواز أن يريد الخبر الأخير وحده ويكون عدم مطابقته لعدم ما تمكن المطابقة معه فهو غير مطابق بالمعنى الأعم كما تقدم تقريره .
فقوله إنه كذب صدق على هذا التقرير فلا يقطع بكذب هذا الخبر لهذا الاحتمال فإن كذب في جملة عمره أو في جميع ما قاله في هذا البيت ، ثم قال كل ما تكلمت به في عمري صدق أو جميع ما قلته في هذا البيت صدق فإن أراد ما تقدم منه قبل هذا الخبر فهو كاذب ، وإن أراد هذا الخبر فهو كاذب أيضا فإن الصدق مطابقة الخبر لغيره ، والخبر عن الخبر بأنه صدق يقتضي تقدم رتبة المخبر عنه عن الخبر ، وتأخر الشيء عن نفسه بالرتبة محال ، وإن أراد المجموع من الأخبار المتقدمة وهذا الخبر فالمطابقة لم تحصل أيضا في الجميع فهو كذب أيضا ، وكذب ولم يتأت هنا في الخبر الأخير ما تأتى لنا فيه إذا قال : أنا كاذب فيه لأن الصدق يشترط فيه المطابقة فيحتاج فيه إلى شيئين حتى تحصل المطابقة بينهما أما إذا قال أنا كاذب فيه فقد ادعى عدم المطابقة وهي تصدق بطريقين إما بمخبر عنه غير مطابق ، وإما بعدم المخبر عنه بالكلية كما تقدم تقريره فلا جرم أمكننا أن نجعل الخبر الواحد كذبا ولم يمكنا أن نجعله صدقا فتأمل هذا الفرق ولاحظ فيه أن الكذب أعم ، والأعم قد يوجد حيث لا يوجد الأخص ، وأما الإمام فخر الدين وغيره فقد سوى بين البابين وقصر الكذب في عدم المطابقة على أحد قسميه [ ص: 57 ]
وقال إذا هو كاذب لتأخر الخبر عن المخبر عنه بالرتبة ، وتأخر الشيء عن نفسه محال لكن الكذب أعم مما ادعاه كما تقدم بيانه فلا يلزم ما قاله . قال أنا كاذب في الخبر الأخير