قال الشاعر :
وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
تمدح بهما ، وقد أنكر العلماء على ذلك ، وتقرير الإنكار أن كلامه هذا يشعر بثبوت الفرق بين وعد الله تعالى ووعيده . ابن نباتةوالفرق بينهما محال عقلا ؛ لأنه إن أريد بالوعد والوعيد صورة اللفظ وما دل عليه بوضعه اللغوي من العموم فإنهما سواء في جواز دخول التخصيص فيهما ، فكما دخل التخصيص في قوله تعالى { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } بمن عفي عنه تفضلا أو بالتوبة أو غير ذلك فلم ير شرا مع عمله له فكذلك دخل التخصيص في قوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } بمن حبط عمله بردته وسوء خاتمته أو أخذت أعماله في الظلامات بالقصاص وغيره ، فلم ير خيرا مع أنه عمله ، وكذلك جميع إخبارات الوعيد والوعد يخرج منها من لم يرد باللفظ ويبقى المراد فلا فرق بينهما من هذا الوجه ، وإن أريد بالوعد والوعيد من أريد بالخطاب ومن قصد بالإخبار عنه بالنعيم أو العقاب فيستحيل أن من أراده الله تعالى بالخبر أن لا يقع مخبره .
وإلا لحصل الخلف المستحيل عقلا على الله تعالى بل يجب حصول النعيم لمن أراده الله تعالى بالإخبار عن نعيمه وحصول العقاب لمن أراده الله تعالى بالإخبار عن عقابه لئلا يلزم الخلف فحينئذ لا فرق بينهما أيضا فإن قلت إن أريد بالوعيد صورة العموم وهو قابل للتخصيص وبالوعد من أريد بالخطاب فإنه يتعين فيه الوفاء بذلك الموعود يندفع المحال ، وتصح هذه العبارة قلت هذا يمكن غير أنه يوهم أن الله تعالى يعفو عمن أريد بالوعيد ولا يقتصر المفهوم على التخصيص فقط كما جرت به العادة من التمدح بالعفو وإن أكذب أحدنا نفسه كما قال الشاعر :
فإن الكذب جائز علينا ونمدح به ويحسن منا في مواطن
( المسألة الثالثة ) إذا فرضنا رجلا صادقا على الإطلاق وهو زيد فقلنا [ ص: 58 ] زيد ومسيلمة الحنفي صادقان أو كاذبان استحال في هذا الخبر أن يكون صادقا ، وإلا لصدق مسيلمة في قولنا هما صادقان أو لكذب زيد في قولنا هما كاذبان .
ويستحيل أيضا أن يكون هذا الخبر كاذبا للزوم صدق مسيلمة في قولنا هما كاذبان أو كذب زيد في قولنا هما صادقان ، لكن كذب زيد محال لأن الفرض خلافه وإذا ارتفع عنه الصدق والكذب لزم ارتفاع النقيضين كما تقدم تقريره قبل هذا فيمن قال : أنا كاذب في بيت لم يتكلم فيه إلا بهذا الكلام وقد تقدم مبسوطا ، ويلزم أيضا وهو قبول الصدق والكذب وهو محال أيضا . وجود الخبر بدون خصيصته
والجواب قال الإمام فخر الدين في باب الإخبار أن هذا الخبر في قوة خبرين فإذا قلنا زيد ومسيلمة صادقان فتقديره زيد صادق ومسيلمة صادق والأول خبر صادق والثاني خبر كاذب ، وكذلك إذا قلنا كاذبان صدق مفهوم الكذب في مسيلمة وكذب في زيد ، وهذا الجواب يبطل بتضييق الفرض بأن نقول المجموع صادق أو كاذب ونجعل الخبر عن المجموع ، وهو مفرد في اللفظ أو يقول المتكلم أردت المجموع والإخبار عنه ، ولم أرد الإخبار عن كل واحد منهما فيبطل هذا الجواب .
والجواب الحق أن نلتزم في قولنا هما صادقان أنه كذب ، وتقريره أن الكذب نقيض الصدق كما تقدم تقريره فإنه عدم المطابقة الذي هو نقيض المطابقة ، والمتكلم أخبر عن حصول المطابقة في المجموع وفي كل واحد منهما ، وليست كذلك لأن الحقيقة تنتفي بانتفاء جزئها فتنتفي المطابقة في المجموع بنفيها في أحدهما ولا نشك أنها منفية في أحدهما فيكون الحق نفي المطابقة في المجموع فيكون الخبر كذبا ، وكذلك إذا قلنا هما كاذبان فإنا أخبرنا عن ثبوت عدم المطابقة في كل واحد منهما ، وإذا قال قائل العدم يشمل زيدا وعمرا كذب خبره هذا بوجود أحدهما فإن مجموع العدمين ينتفي بانتفاء جزئه كما ينتفي مجموع الثبوت ، وقد أشار فخر الدين إلى أن الخبر يكون كذبا غير أنه لم يبسط تقريره .