[ ص: 122 ] ( الفرق الخامس والثمانون ) اعلم أن القاعدة والغالب أن الواجب يكون أفضل من المندوب وإليه الإشارة بقوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى { الفرق بين قاعدة المندوب الذي لا يقدم على الواجب وقاعدة المندوب الذي يقدم على الواجب } الحديث في ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وغيره قد صرح الحديث بأن الواجب أفضل من غيره ومتى مسلم قدم الواجب على المندوب وباعتبار هذه القاعدة ورد سؤال مشكل وهو أن السنة وردت بالجمع بين الصلاتين للظلام والمطر والطين وهذا الجمع يلزم منه تقديم المندوب على الواجب وذلك أن الجماعة يلحقهم ضرر بخروجهم من المسجد إلى بيوتهم وعودهم لصلاة العشاء وكذلك إذا قيل لهم أقيموا في المسجد حتى يدخل وقت العشاء حتى تصلوها وهذا الضرر يندفع بأحد أمرين إما بتفويت فضيلة الجماعة بأن يخرجوا الآن ويصلوا في بيوتهم أفذاذا وإما بأن يصلوا الآن الصلاتين على سبيل الجمع فتفوت مصلحة الوقت وتأخير الصلاة إلى وقتها واجب فضاع الواجب بالجمع فلو حفظ هذا الواجب ضاع المندوب الذي فضيلة الجماعة فقد تعارض واجب ومندوب في دفع هذه الضرورة عن المكلف فقدم المندوب على الواجب فحصل وترك الواجب فذهب وهو خلاف القاعدة [ ص: 123 ] تعارض الواجب والمندوب
والمعهود في الشريعة دفع الضرر بترك الواجب إذا تعين طريقا لدفع الضرر كالفطر في رمضان وترك ركعتين من الصلاة لدفع ضرورة السفر وكذلك يستعمل المحرم لدفع الضرر كأكل الميتة لدفع ضرر التلف وتساغ الغصة بشرب الخمر كذلك وذلك كله لتعين الواجب أو المحرم طريقا لدفع الضرر أما إذا لا يتعين ترك الواجب ولا فعل المحرم ولذلك لا يترك الغسل بالماء ولا القيام في الصلاة ولا السجود لدفع الضرر والألم والمرض إلا لتعينه طريقا لدفع ذلك الضرر وهذا كله قياس مطرد [ ص: 124 ] أمكن تحصيل الواجب أو ترك المحرم مع دفع الضرر بطريق آخر من المندوبات أو المكروهات
وقد خولف هذا القياس بالجمع المتقدم ذكره وترك الواجب وفعل المندوب في دفع الضرر وكذلك الجمع بعرفة ترك فيه واجبان أحدهما تأخير الصلاة لوقتها وهي العصر فتقدم وتصلى مع الظهر مع إمكان الجمع في تحصيل مصلحة الوقت ودفع الضرر وثانيهما ترك الجمعة إذا جاءت يوم عرفة ويصلى الظهر أربعا فترك الواجب أيضا لا لدفع الضرر لأنه يندفع بالجمع بين العصر والجمعة كما يندفع بالجمع بين الظهر والعصر ولذلك لما حج ومعه هارون الرشيد واجتمعا أبو يوسف في بمالك المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وقع البحث في ذلك فقال إذا اجتمع الجمعة والظهر يوم أبو يوسف عرفة قدمت الجمعة لأنها أفضل وواجبة قبل الظهر مع الإمكان قال له إن ذلك خلاف السنة فقال له مالك من أين لك ذلك وأنه [ ص: 125 ] خلاف السنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس ركعتين قبلهما خطبة وهذه هي صلاة الجمعة فقال له أبو يوسف جهر فيهما أو أسر فسكت مالك فظهرت الحجة أبو يوسف رضي الله عنهم أجمعين بسبب الإسرار لأن الجمعة جهرية فلما صلى عليه السلام ركعتين سرا دل ذلك على أنه صلى الظهر سفرية وترك الجمعة والخطبة ليوم لمالك عرفة لا ليوم الجمعة لأن عرفة إنما خطبته لتعليم الناس مناسك الحج كانت في يوم الجمعة أم لا والجواب عن الجمع وترك الجمعة بعرفة أيسر من الجواب عن الجمع ليلة المطر .
أما الجواب عن عرفة وترك الجمعة فلأن الغالب على الحجيج السفر وفرض المسافر الظهر دون الجمعة فجعل النادر تبعا للغالب فمن هو مقيم بعرفة أو منزله قريب من عرفة فترك الجمعة على هذا التقدير ليس ترك الواجب .
وأما ترك تأخير الصلاة إلى وقتها وهي العصر فلضرورة الحجاج في ذلك اليوم للإقبال على الدعاء والابتهال والتقرب اللائق بعرفة وهو يوم لا يكاد يحصل في العمر إلا مرة بعد ضنك الأسفار وقطع البراري والقفار وإنفاق الأموال من الأقطار البعيدة والأوطان النائية فناسب أن يقدم هذا على مصلحة وقت العصر ويكون هذا ضررا يوجب التقديم كما يوجب فوات الزمان التقديم في حق المسافر يجمع بين الصلاتين بل هذا أعظم من فوات الزمان لأن الإنسان يمكنه أن لا يسافر أو يسافر معه رفقة موافقين على النزول في أوقات الصلوات فهو ضرر يمكن التحرز منه من حيث الجملة أما مصالح الحج فأمر لازم للعبد ولا خروج له عنها ولا يمكن العدول عنها إلى غيرها فهذا جواب يمكن أن يقال في جمع عرفة دون جمع ليلة المطر .
وأما جمع المسافر والمريض إذا خاف الغلبة على عقله آخر الوقت فهو متعين لدفع الضرر بخلاف جمع المطر لم يتعين ترك الواجب لدفع الضرر ولو لم يجمع المسافر والمريض ضاع الواجب آخر الوقت وهو الصلاة الأخيرة بغيبة العقل وضرورة المرض أو دخل الضرر بفوات الرفاق والجمع ليلة المطر لو ترك إنما يفوت المندوب الذي هو الجماعة .
وأما الصلوات فتصلى على أفضل الأحوال في البيوت عند دخول الأوقات فهذا جمع يختص بهذا السؤال القوي والجواب عنه إذا حصل يقوي الجواب يوم عرفة فنشرع في الجواب عنه فإنه من الأسئلة المشكلة فنقول إن المندوبات قسمان قسم وهذا هو الغالب [ ص: 126 ] فإن أوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة حتى يكون أدنى المصالح يترتب عليه الثواب ثم تترقى المصلحة والندب وتعظم رتبته حتى يكون أعلى رتب المندوبات تليه أدنى رتب الواجبات وأدنى رتب المفاسد يترتب عليها أدنى رتب المكروهات ثم تترقى المفاسد والكراهة في العظم حتى يكون أعلى رتب المكروهات يليه أدنى رتب المحرمات هذا هو القاعدة العامة ثم إنه قد وجد في الشريعة مندوبات أفضل من الواجبات وثوابها أعظم من ثواب الواجبات وذلك يدل على أن مصالحها أعظم من مصالح الواجبات لأن الأصل في كثرة الثواب وقلته كثرة المصالح وقلتها ألا ترى أن ثواب التصدق بدينار أعظم من ثواب التصدق بدرهم لأنه أعظم مصلحة وسد خلة الوالي الصالح أعظم من سد خلة الفاسق الطالح لأن مصلحة بقاء الولي والعالم في الوجود لنفسه وللخلق أعظم من مصلحة الفاسق وعلى هذا القانون [ ص: 127 ] هذه هي القاعدة العامة في غالب موارد الشريعة مع أنه قد وقع في الشريعة مواضع مستوية في المصلحة وأحدها أكثر ثوابا كقراءة الفاتحة داخل الصلاة أكثر ثوابا من قراءتها خارج الصلاة لوجوبها داخل الصلاة وشاة الزكاة الواجبة أعظم ثوابا من شاة صدقة التطوع مع مساواتها لنفسها ودينار الزكاة أكثر ثوابا من دينار صدقة التطوع . تقصر مصلحته عن مصلحة الواجب
وهو في الشريعة قليل ولله تعالى أن يفضل أحد المتساويين على الآخر بإرادته مع أنه يجوز أن يكون في أحد هذين المتساويين مصلحة لم يطلع عليها أحد بسبب قصد الوجوب فيه أو وقوعه في حيز الواجب إذا ظهر أن كثرة الثواب تدل على كثرة المصلحة غالبا أو مطلقا فأذكر من المندوبات التي فضلها الشرع على الواجبات سبع صور : الصورة الأولى إنظار المعسر بالدين واجب وإبراؤه منه مندوب إليه وهو أعظم أجرا من الإنظار لقوله تعالى { وأن تصدقوا خير لكم } فجعله أفضل من الإنظار وسبب ذلك أن [ ص: 128 ] مصلحته أعظم لاشتماله على الواجب الذي هو الإنظار فمن أبرئ مما عليه فقد حصل له الإنظار وهو عدم المطالبة في الحال .
الصورة الثانية { } أي بسبع وعشرين مثوبة مثل مثوبة صلاة المنفرد كذلك خرجه صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين صلاة في صحيحه وهذه السبع والعشرون مثوبة هي مضافة لوصف صلاة الجماعة خاصة ألا ترى أن من مسلم حصلت له مع أن الإعادة في جماعة غير واجبة عليه فصار وصف الجماعة المندوب أكثر ثوابا من ثواب الصلاة الواجبة وهو مندوب فضل واجبا فدل ذلك على أن مصلحته عند الله تعالى أكثر من مصلحة الواجب . الصورة الثالثة للصلاة في صلى وحده ثم صلى في جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من ألف صلاة في غيره بألف مثوبة مع أن الصلاة فيه غير واجبة فقد فضل المندوب الذي هو الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الواجب الذي هو أصل الصلاة وذلك يدل على أن الصلاة في هذا المكان أعظم مصلحة عند الله تعالى وإن كنا لا نعلم ذلك . الصورة الرابعة { المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في غيره } كما خرجه الثقات الصلاة في وغيره مع أن الصلاة فيه غير واجبة فقد فضل المندوب الواجب الذي هو أصل الصلاة من حيث هي صلاة . الصورة الخامسة الصلاة في ابن عبد البر بيت المقدس بخمسمائة صلاة مع أن الصلاة فيه غير واجبة فقد فضل المندوب الواجب الذي هو أصل [ ص: 129 ] الصلاة .
الصورة السادسة روي أن { } مع أن وصف السواك مندوب إليه ليس بواجب فقد فضل المندوب الواجب الذي هو أصل الصلاة ويؤكد ذلك قوله عليه السلام في الحديث الآخر { صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك } قال بعض العلماء هذا يدل على أن مصلحته تصلح للإيجاب ولكن ترك الإيجاب رفقا بالعباد . الصورة السابعة لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة مندوب إليه لا يأثم تاركه فهو غير واجب مع أنه قد ورد في الصحيح قوله عليه السلام { الخشوع في الصلاة } وروي { إذا نودي للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا } قال بعض العلماء إنما أمر بعدم وما فاتكم فاقضوا لأنه إذا قدم على الصلاة عقيب شدة السعي يكون عنده انبهار وقلق يمنعه من الخشوع [ ص: 130 ] اللائق بالصلاة فأمره عليه السلام بالسكينة والوقار واجتناب ما يؤدي إلى فوات الخشوع وإن فاتته الجمعة والجماعات وذلك يدل على أن مصلحة الخشوع أعظم من مصلحة وصف الجمعة والجماعات مع أن الجمعة واجبة فقد فضل المندوب الواجب في هذه الصورة فهي على خلاف القاعدة العامة التي تقدم تقريرها التي شهد لها الحديث في قوله تعالى { الإفراط في السعي } الحديث . ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه
إذا تقرر هذا وظهر أن بعض المندوبات قد تفضل الواجبات في المصلحة فنقول إنا حيث قلنا إن الواجب يقدم على المندوب والمندوب لا يقدم على الواجب حيث كانت مصلحة الواجب أعظم من مصلحة المندوب أما إذا كانت مصلحة المندوب أعظم ثوابا فإنا نقدم المندوب على الواجب كما تقدم في الخشوع وغيره فإذا وجدنا الشرع قدم مندوبا على واجب فإن علمنا أن مصلحة ذلك المندوب أكثر فلا كلام حينئذ وإن لم نعلمها استدللنا بالأثر على المؤثر وقلنا ما قدم صاحب الشرع هذا المندوب على هذا الواجب إلا لمصلحة ومصلحته أعظم من مصلحة الواجب لأنا استقرينا الشرائع [ ص: 131 ] فوجدناها مصالح على وجه التفضل من الله تعالى ولذلك قال رضي الله تعالى عنهما إذا سمعتم قراءة كتاب الله تعالى فاستمعوا فإنه إنما يأمركم بخير وينهاكم عن شر فحيث لم نعلم ذلك قلنا هو كذلك طرد القاعدة الشرع في رعاية المصالح ولما وردت السنة الصحيحة بالجمع بين الصلاتين وقدم فيه المندوب الذي هو وصف الجماعة على الواجب الذي هو الوقت قلنا هذا المندوب أعظم مصلحة من ذلك الواجب أو مساو للواجب فخير الشرع بينهما وجعل له اختيار أحدهما فاندفع السؤال حينئذ . ابن عباس