( الفرق السابع والثمانون الفرق بين قاعدة ما يثبت في الذمم وبين قاعدة ما لا يثبت فيها ) اعلم أن المعينات المشخصات في الخارج المرئية بالحس لا تثبت في الذمم ولذلك أن من انفسخ العقد ولو ورد العقد على ما في الذمة كما في السلم فأعطاه ذلك وعينه فظهر ذلك المعين مستحقا رجع إلى غيره لأنه تبين أن ما في الذمة لم يخرج منها وكذلك إذا اشترى سلعة معينة فاستحقت انفسخ العقد ولو استأجر دابة معينة للحمل أو غيره فاستحقت أو ماتت مكة من غير تعيين مركوب معين فعين له لجميع ذلك دابة للحمل أو لركوبه فعطبت أو استحقت رجع فطالبه بغيرها لأن المعقود عليه غير معين بل في الذمة فيجب عليه الخروج منه بكل معين شاء ويظهر أثر ذلك في قاعدة أخرى فإن المطلوب متى كان في الذمة فإن لمن هو عليه أن يتخير بين الأمثال ويعطي أي مثل شاء ولو عقد على معين من تلك الأمثال لم يكن له الانتقال عنه إلى غيره فلو استأجر منه حمل هذا المتاع من غير تعيين دابة أو على أن يركبه إلى لم يكن له أن يعطي غيره من الخابية . اكتال رطل زيت من خابية وعقد [ ص: 134 ] عليه
وكذلك إذا لم يكن له الانتقال عنه إلى غيره من تلك الأمثال ولو كان في الذمة لكان له الخروج عنه بأي مثل شاء من تلك الأمثال فهذا أيضا يوضح لك أن المعينات لا تثبت في الذمم وأن ما في الذمم لا يكون معينا بل يتعلق الحكم فيه بالأمور الكلية والأجناس المشتركة فيقبل ما لا يتعين منها البدل والمعين لا يقبل البدل والجمع بينهما محال وهذا الفرق بين هاتين القاعدتين يظهر أثره في المعاملات والصلوات والزكوات فلا ينتقل الأداء إلى الذمة إلا إذا خرج وقته لأنه معين بوقته والقضاء ليس له وقت معين يتعين حده بخروجه فهو في الذمة والقاعدة أن من شرط الانتقال إلى الذمة تعذر المعين كالزكاة مثلا ما دامت معينة بوجود نصابها لا تكون في الذمة فإذا تلف النصاب بعذر لا يضمن نصيب الفقراء ولا ينتقل الواجب إلى الذمة وكذلك الصلاة إذا تعذر فيها الأداء بخروج وقتيها لعذر لا يجب القضاء وإن خرج لغير عذر ترتبت في الذمة [ ص: 135 ] ووجب القضاء ولا يعتبر في القضاء التمكن من الإيقاع أول الوقت خلافا فرق صبرته صيعانا فعقد على صاع منها بعينه رحمه الله كما لا يعتبر في ضمان الزكاة تأخر الجائحة عن الزرع أو الثمرة بعد زمن الوجوب وكما لو للشافعي فإنه لا يخاطب بالتوفية من جهة أخرى ولا ينتقل الصاع للذمة ولذلك أجمعنا في المسافر يقيم والمقيم يسافر على اعتبار آخر الوقت وهذا الفرق قد خالفناه أيها المالكية في صورتين إحداهما في النقدين عندنا لا يتعين بالتعيين وإنما تقع المعاملة بهما على الذمم . باع صاعا من صبرة وتمكن من كيلها ثم تلفت الصبرة من غير البائع
وإن عينت إلا أن تخص بأمر يتعلق به الغرض كشبهة في أحدهما أو سكة رائجة دون النقد الآخر ولو غصب غاصب دينارا معينا فله أن يعطي غيره مثله في المحل ويمنع ربه من أخذ ذلك المعين المغصوب وعلل ذلك أصحابنا بأن خصوصات الدنانير والدراهم لا تتعلق بها الأغراض فسقط اعتبارها في نظر الشرع فإن صاحب الشرع إنما يعتبر ما فيه نظر صحيح ولزمهم على ذلك سؤالان : أحدهما يلزم أن أعيان الدنانير والدراهم لا تملك أيضا لأجل أن للغاصب المنع من المعين وكذلك المشتري في العقود ولو كانت الخصوصات مملوكة لكان لصاحب المعين المطالبة بملكه وأخذه المعين من الغاصب والمشتري فلا يكون المملوك عندهم إلا الجنس الكلي دون الشخصي ومتى شخص من الجنس شيء لا يملك خصوصه ألبتة وهو أمر شنيع وثانيهما أنا اتفقنا على أن الصيعان المستوية والأرطال المستوية من الزيت تملك أعيانها وإنما تعين بالتعيين مع أن الأغراض مستوية في تلك الأفراد فهي نقض كبير عليهم ولهم الجواب عن الأول بالتزامه [ ص: 136 ] والشناعة لا عبرة بها من غير دليل شرعي .
وقد تمسكوا بدليل صحيح وهو أن الشرع لا يعتبر ما لا غرض فيه وهذا كلام حق ، وعن الثاني الفرق بين النقدين وغيرهما فإنهما وسائل لتحصيل الأغراض من السلع والمقاصد إنما هي السلع وإذا كانت السلع مقاصد وقعت المشاحنة من تعييناتها بخلاف الوسائل اجتمع فيها أمران أحدهما أنها وسائل والثاني عدم تعلق الأغراض بخلاف المقاصد فيها حيثية واحدة فظهر الفرق واندفع النقض . الصورة الثانية التي خالف فيها المالكية الفرق إذا قال كان له على رجل دين فأخذ منه ما يتأخر قبضه كدار يسكنها أو ثمرة يتأخر جذاذها أو عبد يستخدمه ونحو ذلك ابن القاسم لا يجوز ذلك لأنه فسخ دين من دين لأن هذه الأمور لما كانت يتأخر قبضها أشبهت الدين وفيها مفسدة الدين من جهة أن فيها المطالبة وقال يجوز ذلك وليس هذا فسخ دين في دين بل دين معين في معين وعلى هذا المذهب يطرد الفرق إنما مخالفته في القول الأول أشهب