[ ص: 27 ] ( فصل ) : الإنشاء ينقسم إلى ما اتفق الناس عليه وإلى ما اختلفوا فيه فالمجمع عليه أربعة أقسام :
( القسم الأول ) القسم نحو قولنا أقسم بالله لقد قام زيد ونحوه فإن مقتضى هذه الصيغة أنه أخبر بالفعل المضارع أنه سيكون منه قسم في المستقبل فكان ينبغي أن لا تلزمه كفارة بهذا القول ؛ لأنه وعد بالقسم لا قسم كقول القائل أعطيك درهما فإنه وعد بالإعطاء لكن لما وقع الاتفاق على أنه بهذا اللفظ أقسم ، وأن موجب القسم يلزمه دل ذلك على أنه أنشأ به القسم لا أنه أخبر به عن وقوعه في المستقبل ، وهذا أمر اتفق عليه الجاهلية والإسلام ، ولذلك لا يحتمل التصديق والتكذيب وجميع لوازم الإنشاء موجودة فيه فدل ذلك على أنه إنشاء ، ولذلك يقول فيه من أحاط بذلك من فضلاء النحاة القسم جملة إنشائية يؤكد بها جملة خبرية .
( القسم الثاني ) الأوامر والنواهي إنشاء متفق عليه في الجاهلية والإسلام فإن قول القائل افعل لا تفعل يتبعه إلزام الفعل أو الترك ، ويترتب عليه ولا يحتمل التصديق والتكذيب ولا يقبل لوازم الخبر ، ويلزمه جميع لوازم الإنشاء فيكون إنشاء .
( القسم الثالث ) الترجي نحو لعل الله يأتينا بخير والتمني نحو ليت لي مالا فأنفق منه ، والعرض نحو ألا تنزل عندنا فتصيب خيرا ، والتحضيض وصيغه أربع وهي ألا وهلا ولو ما ولولا نحو ألا تشتغل بالعلم وهلا اشتغلت به ولو ما اشتغلت به فإن هذه الصيغ كلها للطلب ويتبعها الطلب ، ويترتب عليها ولا تقبل التصديق ولا التكذيب فهي كالأوامر والنواهي إنشاء كما تقدم .
( القسم الرابع ) النداء نحو يا زيد اختلف فيه النحاة هل فيه فعل مضمر تقديره أنادي زيدا أو الحرف وحده مفيد للنداء ؟ فقيل على الأول لو كان الفعل مضمرا والتقدير أنادي زيدا لقبل التصديق والتكذيب ، أجاب عن ذلك بأن الفعل مضمر ولا يلزم قبوله التصديق والتكذيب ؛ لأنه إنشاء والإنشاء لا يقبلهما ويؤكد الإنشاء في النداء أنه طلب لحضور المنادى ، والطلب إنشاء نحو الأوامر والنواهي فهو مما اتفق على أنه إنشاء لكن الخلاف في الإضمار وعدمه فقط فهذه الأقسام متفق عليها في الجاهلية والإسلام . المبرد
( وأما المختلف فيه ) هل هو إنشاء أو خبر فهي صيغ العقود نحو بعت واشتريت وأنت حر وامرأتي [ ص: 28 ] طالق ونحو ذلك . قالت الحنفية إنها إخبارات على أصلها اللغوي ، وقال غيرهم إنها إنشاءات منقولة عن الخبر إليه احتج هؤلاء بأمور :
( أحدها ) أنها لو كانت إخبارا لكانت كاذبة ؛ لأنه لم يبع قبل ذلك الوقت ولم يطلق ، والكذب لا عبرة به لكنها معتبرة فدل ذلك على أنها ليست إخبارا بل إنشاء لحصول لوازم الإنشاء فيها من استتباعاته لمدلولاتها وغير ذلك من اللوازم .
( وثانيها ) أنها لو كانت إخبارا لكانت إما كاذبة ولا عبرة بها أو صادقة فتكون متوقفة على تقدم أحكامها فحينئذ إما أن تتوقف عليها أيضا فيلزم الدور أو لا تتوقف عليها فيلزم أن يطلق امرأته أو يعتق عبده ، وهو ساكت وذلك خلاف الإجماع .
( وثالثها ) أنها لو كانت إخبارا فإما أن تكون خبرا عن الماضي أو الحاضر وحينئذ يتعذر تعليقها على الشرط ؛ لأن من شرط الشرط أن لا يتعلق إلا بمستقبل أو خبر عن المستقبل وحينئذ لا يزيد على التصريح بذلك ، وهو لو صرح وقال لامرأته ستصيرين طالقا لم تطلق بهذا اللفظ ، وكذلك ما في معناه .
( ورابعها ) أنه لو قال للمطلقة الرجعية أنت طالق لزمه طلقة أخرى مع أن إخباره صادق باعتبار الطلقة المتقدمة فلا حاجة إلى طلقة أخرى لكن لما لزمه طلقة أخرى دل ذلك على أن هذه الصيغة منشئة للطلاق .
( وخامسها ) قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } والأمر بالطلاق لا يمكن أن يكون عائدا على التحريم فإن التحريم صفة من صفات الله تعالى وكلامه النفساني لا يتعلق به كسب ولا اختراع فتعيين صرفه لأمر آخر يقتضيه ويستلزمه [ ص: 29 ] توفية باللفظ الدال على الطلب ، وما ذلك إلا قول القائل أنت طالق فدل ذلك على أن هذه الصيغة سبب التحريم ، ويترتب عليها التحريم ولا نعني بكونها إنشاء إلا ذلك .
( وسادسها ) أن الإنشاء هو المتبادر في العرف إلى الفهم فوجب أن يكون منقولا إليه كسائر المنقولات ، والجواب قالت الحنفية أما الأول فإنما يلزم أن يكون كذبا أن لو لم يقدر فيها صاحب الشرع تقدم مدلولاتها قبل النطق بها بالزمن الفرد لضرورة تصديق المتكلم بها لكن الإضمار أولى من النقل لما تقرر في علم الأصول ، ولأن جواز الإضمار في الكلام مجمع عليه ، والنقل مختلف فيه والمجمع عليه أولى ومتى كان المدلول مقدرا قبل الخبر كان الخبر صادقا ، فلا يلزم الكذب ولا النقل للإنشاء ، وبقيت إخبارات على موضوعاتها اللغوية وعملنا بالأصل في عدم النقل وأنتم خالفتموه . وعن الثاني أن الدور غير لازم ؛ لأن النطق باللفظ لا يتوقف على شيء ، وبعده يقدر تقدم المدلول وبعد تقدير المدلول يحصل الصدق ويلزم الحكم ، فالصدق متوقف مطلقا واللفظ متوقف عليه مطلقا ، والتقدير متوقف على النطق ويتوقف عليه الصدق فههنا ثلاثة أمور مترتبة بعضها على بعض ، وليس فيها ما هو قبل الآخر وبعده حتى يلزم الدور بل هي كالابن والأب والجد في الترتيب والتوقف فاندفع الدور .
وعن الثالث أنا نلتزم أنها إخبارات عن الماضي ، ولا يتعذر التعليق وبيانه أن الماضي له تفسير أن أحدهما ماض تقدم مدلوله قبل النطق به من غير تقدير فهذا يتعذر تعليقه ؛ لأن معنى التعليق [ ص: 30 ] توقيف أمر في دخوله في الوجود على دخول أمر آخر في الوجود ، وهو الشرط وما دخل في الوجود وتحقق لا يمكن توقيف دخوله في الوجود على غيره فلأجل ذلك تعذر تعليق الماضي المحقق ، وثانيهما ماض بالتقدير لا بالتحقيق فهذا يصح تعليقه وتقديره أنه إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار فقد أخبر عن ارتباط طلاق امرأته بدخول الدار فيقدر صاحب الشرع هذا الارتباط قبل نطقه به بالزمن الفرد لضرورة تصديقه ، وإذا قدر الارتباط قبل النطق صار الإخبار عن الارتباط ماضيا ؛ لأن حقيقة الماضي هو الذي مخبره قبل خبره ، وهذا كذلك بالتقدير فيكون ماضيا مع التعليق فقد اجتمع المضي والتعليق بهذا التفسير ، ولم يناف المضي التعليق فتأمله فهو دقيق في باب التقديرات ، وعن الرابع أن المطلقة الرجعية إذا قال لها أنت طالق إن أراد الإخبار عن الطلقة الماضية لم تلزمه طلقة ثانية .
وإن لزم الإخبار عن طلقة ثانية فهو إخبار كاذب لعدم تقدم وقوع ثانية فيحتاج للتقدير لضرورة التصديق فتلزمه الثانية بالتقدير كالأولى فقولكم إن المطلقة الرجعية تستغني عن التقدير غير مسلم بل هي وغيرها سواء ، وإنما يلزم الفرق بينها وبين غيرها إذا كان قوله أنت طالق إخبارا عن الطلقة الأولى ، وليس كذلك ، وعن الخامس أن الأمر عندنا متعلق بإيجاد خبر يقدر الشرع قبله الطلاق فيلزم الطلاق لا إنشاء الطلاق حتى يكون اللفظ سببا كما ذكرتموه بل خبرا صرفا مع التقدير ، وهذا أمر ممكن متصور فلا حاجة إلى مخالفة الأصل بالنقل والعدول عن اللغة الصريحة فهذه أجوبة حسنة للحنفية
( وأما الوجه السادس ) فلا يتأتى الجواب عنه إلا بالمكابرة فإن المبادرة [ ص: 31 ] للإنشاء والعدول عن الخبر مدرك لنا بالعقول بالضرورة ولا نجد في أنفسنا أن القائل لامرأته أنت طالق أنه يحسن تصديقه وتكذيبه بما ذكروه من التقدير والبحث في هذا المقام يعتمد التناصف في الوجدان ، فمن لم ينصف يقل ما شاء .
وأما الأجوبة المتقدمة عن بقية الوجوه فمتجهة صحيحة ، والسادس هو العمدة المحققة والله أعلم . فهذا تلخيص هذه المباحث من الجهتين على أتم الوجوه ولم أرها لأحد من الحنفية والشافعية ولا غيرهم على هذا الوجه وكل ذلك من فضل الله تعالى .