الموفي ثلاثين: قوله: ولا الضالين [الفاتحة:7].
ووجهه أن الوصول إلى النعم مع الرضاء قد يكون مشوبا بشيء من الغواية، مكدرا بنوع من أنواع المخالفة وعدم الهداية.
وهذا باعتبار أصل الوصول إلى نعمة من النعم مع رضاء المنعم بها.
فإنه لا يستلزم سلب كون المنعم عليه على ضلالة، لا باعتبار هذه النعمة الخاصة من هذا المنعم -عز وجل-.
ولما كان الأمر في الأصل هكذا، كان في وصول النعم إلى المنعم عليه من المنعم بها مع كونه راضيا عليه، غير غاضب منه، إذا كان ذلك الوصول مصحوبا يكون صاحبه على ضلالة في نفسه قصورا عن وصولها إلى من كان جامعا بين [ ص: 20 ] كونه واصلا إلى المنعم، فائزا برضاء المنعم عليه، خالصا من كدر كونه في نفسه على ضلالة، وتقريرا لدلالة من هذا الوجه على إخلاص التوحيد، كتقريرها في الوجه الذي قبله.
فهذه ثلاثون دليلا مستفادة من سورة الفاتحة باعتبار ما يستفاد من تراكيبها العربية مع ملاحظة ما يفيده ما اشتملت عليه من تلك الدقائق والأسرار التي هي راجعة إلى العلوم الآلية، وداخلة فيما تقتضيه تلك الألفاظ بحسب المادة، والهيئة، والصورة، مع قطع النظر عن التفسير بمعنى خاص قاله بعض السلف، أو وقف عنده من بعدهم من الخلف.
وهذه المواضع يفيد كل واحد منها مع أن فاتحة الكتاب ليست إلا سبع آيات، فما ظنك بما في سائر الكتاب العزيز؟ إخلاص التوحيد،
وهذا كالبرهان على أن في الكتاب العزيز من ذلك ما يطول تعداده، وتتعسر الإحاطة به.
فلو استعملت مثل هذا التدبر، وأعملت الفكر لمثل هذا التفكر في سائر الآيات الدالة على إخلاص توحيده تعالى، وإفراده بالعبادة، وقطع وسائل الشرك، وعلائقه، لفزت بأكثر من هذا الذي ذكرناه، ووجدت دقائق وأسرارا غير ما سقناه.
وستمر بك آيات في هذا الباب، فادخل فيها بقلب سليم بالإخلاص والصواب، تظهر عليك فوائدها، وتعد عليك عوائدها -إن شاء الله تعالى-، وهو المستعان، وبيده التوفيق، والإحسان.
وكتاب «مدارج السالكين في شرح منازل السائرين» الذي فسر فيه الشارح فاتحة الكتاب في مجلدين ضخمين أحسن ما جمع في باب الإخلاص، والتوحيد السني، الصافي عن أكدار الآراء، وشوب الأهواء.
فعليك به إن كنت تريد التوحيد المفيد، وتعرف قدر هذا العلم الشريف الحميد، وترجو لقاء الله تعالى يوم المزيد.
فإن قلت: هذه الأدلة التي استخرجتها من هذه السورة المباركة، وبلغت بها [ ص: 21 ] إلى هذا العدد، وجعلتها ثلاثين دليلا على مدلول واحد، واستفدتها من كلام العلامة القاضي «محمد بن علي الشوكاني اليماني» -قدس سره-، لم نجد لك فيها سلفا، ولا سبقك بها غيرك.
قلت: هذه شكاة ظاهر عنك عارها، واعتراض غير واقع موقعه، ولا مصادف محله؛ فإن القرآن عربي، وهذا الاستخراج لما ذكرناه من الأدلة على مقتضى اللغة العربية، وبحسب ما تقتضيه علومها التي دونها الثقات، ورواها العدول الأثبات الذين كانوا أئمة الدين، وخدمة الشرع المبين، وليس هذا من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه، والزجر لفاعله، بل من الفهم الذي يعطاه الرجل في كتاب الله، كما أشار إليه -رضي الله عنه- في كلامه المشهور. علي بن أبي طالب
وما كان من هذا القبيل، فلا يحتاج فيه إلى سلف وإلى دليل، وكفى بلغة العرب العرباء، وعلومها المدونة بين ظهراني الناس، وعلى ظهر البسيطة سلفا.