الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولا ينبغي للبطال أن يترك النظافة وينكر على المتصوفة ويزعم أنه يتشبه بالصحابة إذ التشبه بهم في أن لا يتفرغ إلا لما هو أهم منه ، كما قيل لداود الطائي لم لا تسرح لحيتك قال إني إذن لفارغ .

فلهذا لا أرى للعالم ولا للمتعلم ولا للعامل أن يضيع وقته في غسل الثياب احترازا من أن يلبس الثياب المقصورة وتوهما بالقصار تقصيرا في الغسل فقد كانوا في العصر الأول يصلون في الفراء المدبوغة ولم يعلم منهم من فرق بين المقصورة والمدبوغة في الطهارة والنجاسة بل كانوا يجتنبون النجاسة إذا شاهدوها ولا يدققون نظرهم في استنباط الاحتمالات الدقيقة بل كانوا يتأملون في دقائق الرياء والظلم حتى قال سفيان الثوري لرفيق له كان يمشي معه فنظر إلى باب دار مرفوع معمور لا تفعل ذلك فإن الناس لو لم ينظروا إليه لكان صاحبه لا يتعاطى هذا الإسراف .

فالناظر إليه معين له على الإسراف .

فكانوا يعدون جمام الذهن لاستنباط مثل هذه الدقائق لا في احتمالات النجاسة .

فلو وجد العالم عاميا يتعاطى له غسل الثياب محتاطا فهو أفضل فإنه بالإضافة إلى التساهل خير .

وذلك العامي ينتفع بتعاطيه إذ يشغل نفسه الأمارة بالسوء بعمل المباح في نفسه فيمتنع عليه المعاصي في تلك الحال .

والنفس إن لم تشغل بشيء شغلت صاحبها وإذا قصد به التقرب إلى العالم صار ذلك عنده من أفضل القربات .

فوقت العالم أشرف من أن يصرفه إلى مثله فيبقى محفوظا عليه ، وأشرف وقت العامي أن يشتغل بمثله فيتوفر الخير عليه من الجوانب كلها .

وليتفطن بهذا المثل لنظائره من الأعمال وترتيب فضائلها ووجه تقديم البعض منها على بعض فتدقيق الحساب في حفظ لحظات العمر بصرفها إلى الأفضل أهم من التدقيق في أمور الدنيا بحذافيرها .

التالي السابق


(فلا ينبغي للبطال أن يترك النظافة) الظاهرية (وينكر على) طائفة (المتصوفة) في تجملهم في هيئاتهم بالمرقعات النفيسة (ويزعم أنه) في بذاذته ورثاثة أطماره (يتشبه بالصحابة) رضوان الله عليهم وبالسلف الماضين من التابعين، وهذا بعيد جدا (إذ التشبه بهم في أن لا يتفرغ له بما) وفي نسخة لما (هو أهم منه، كما قيل لداود) بن نصير (الطائي) ابن سليمان المتوفى سنة 160 حين رآه رجل ولحيته متشعثة (لو سرحت لحيتك) وفي بعض النسخ لم لا تسرح لحيتك (قال) : وفي نسخة فقال: (إني إذا لفارغ) أي بطال (فلهذا لا أرى للعالم) المشتغل بعلمه تعلما وتعليما (ولا للعامل) بعلمه (أن يضيع وقته) النفيس (في غسل الثياب) بنفسه (احترازا من أن يلبس الثياب المقصورة) التي قصرها القصار (توهما بالقصار تقصيره في) قصرها و (الغسل) لها وهذه وسوسة كبيرة اعترت بعض العلماء الصالحين، ولقد أدركت بعض مشايخي لم يكن يلبس من هذه الثياب التي تعمل من الصوف وتصبغ ألوانا وتجلب من الروم حتى يغسلها في البحر ثلاث مرات توهما منه أنها من شغل النصارى وأن أياديهم متنجسة وأن تلك الأصباغ لا تسلم من مخالطتها بالنجاسات .

فهذا وأمثال ذلك وساوس ونزغات أجارنا الله منها، وقد ذكر ابن حجر المكي في شرح الشمائل أن من البدع المذمومة غسل الثوب الجديد قبل لبسه (فقد كانوا في العصر الأول يصلون في الفراء) أي الجلود (المدبوغة) من غير أن يسألوا من دبغها وكيف دبغها وبأي شيء دبغها وهل خالطها النجاسة في أيام دباغها أم لا (وكم من الفرق بين) الفراء (المدبوغة و) بين الثياب (المقصورة) وفي نسخة بين المدبغة والمقصرة (في الطهارة والنجاسة بل كانوا) إنما (يجتنبون النجاسة إذا شاهدوها) بأبصارهم (ولا يدققون نظرهم في استنباط الاحتمالات الدقيقة) والأوجه المختلفة (بل كانوا يتأملون في دقائق) مسائل (الرياء والظلم) أي الشرك الخفي (حتى قال) الإمام أبو عبد الله (سفيان) بن سعيد (الثوري) رحمه الله تعالى (لرفيق له كان يمشي معه) في زقاق من أزقة الكوفة (فنظر إلى باب دار مرفوع) البناء (معمور) بالناس (لا تفعل ذلك) أي لا تنظر إلى هذا، فقال له هل فيه من بأس؟ قال نعم (فإن الناس لو لم ينظروا إليه) على سبيل التفرج (لكان صاحبه لا يتعاطى هذا الإسراف) في عمارته ورفعته ونقشه وتحسينه (فالنظر إليه معين له على الإسراف) هكذا أخرجه صاحب القوت (فكانوا يعدون) أي يهيئون (جمام الذهن) بكسر الجيم ما يستبقى منه (لاستنباط مثل هذه الدقائق) الخفية في حفظ الباطن والظاهر (لا في احتمال النجاسات) ودقائقها (فلو وجد العالم) أو العامل رجلا (عاميا) أي من عامة الناس الذي ليس له اشتغال بالعلم ولا بالعمل وإنما هو مقتصر على أداء ما فرض عليه من الصلوات وغيرها (يتعاطى له غسل الثياب) بنفسه حالة كونه (محتاطا) في طهارته ونظافته (فهو أفضل له) وأحسن (فإنه بالإضافة) أي بالنسبة [ ص: 313 ] (إلى التساهل خير وذلك العامي) مع ذلك (ينتفع بتعاطيه) غسلها (إذ يشغل نفسه الأمارة بالسوء بعمل مباح في نفسه) لا مؤاخذة عليه فيه شرعا (فتمتنع عليه المعاصي) والمناهي والملاهي (في تلك الحال) ومن المعلوم (أن النفس إن لم تشتغل) بأمر ما (شغلت صاحبها) فرمته في المتاعب يصعب عليه التخلص منها وهذا، كما يقولون: النفس إن لم تقتلها قتلتك (وإذا قصد به التقرب إلى العالم) أو العامل (صار ذلك عنده أفضل القربات) وبهذا القصد وقع الفارق في أفعاله، فأعظم الناس منزلة وأكثرهم خيرا وبركة الواقف مع قصده في حركته وسكونه، وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى: اعلم يا عمر أن عون الله للعبد بقدر النية، فمن ثبتت نيته تم عون الله له، ومن قصرت عنه نيته قصر عنه عون الله بقدر ذلك، وكتب بعض الصالحين إلى أخيه: أخلص النية في أفعالك يكفك قليل العمل (فوقت العالم أشرف من أن يصرفه إلى مثله) من القصر والغسل; لأنه عنده كالسيف إن لم يقطعه بالطاعة قطعه بالقطيعة (فيبقى) وقته (محفوظا عليه، وأشرف وقت العامي أن يشتغل بمثله) لسلامته من الوقوع فيما لا يعني (فيتوفر الخير من الجوانب) أي من الجانبين وكل منهما بقصد صحيح وعقد رجيح (وليتفطن بهذا المثال) الذي أوردناه (لنظائره من) سائر (الأعمال وترتيب فضائلها ووجه تقديم بعضها على البعض) على اختلاف المقاصد والنيات، فقد يكون العمل قليلا في الأعين، وهو كبير عند الله بحسن النية والإخلاص، وقد يكون فضل عمل على آخر بوجهين وثلاثة وأقل وأكثر، وقد ساق من ذلك ابن الحاج في أول المدخل ما يشفى به الغليل وتثلج به الصدور (فتدقيق الحساب في حفظ لحظات العمر) وآنائه التي هي كل ذرة منها رخيصة بألف درة (يصرفها إلى الأفضل) فالأفضل (أهم من التدقيق في) متعلقات (أموال الدنيا بحذافيرها) أي بجميعها .




الخدمات العلمية