الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم لما كان الإيمان مركوزا في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى قسمين إلى من أعرض فنسي وهم الكفار وإلى من أجال خاطره فتذكر فكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها .

ولذلك قال عز وجل : لعلهم يتذكرون وليتذكر أولو الألباب واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر وتسمية هذا النمط تذكرا ليس ببعيد فكأن التذكر ضربان أحدهما .

أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه لكن غابت بعد الوجود الآخر .

والآخر أن يذكر صورة كانت مضمنة فيه بالفطرة .

وهذه حقائق ظاهرة للناظر بنور البصيرة ثقيلة على من يستر وجه السماع والتقليد دون الكشف والعيان .

ولذلك تراه يتخبط في مثل هذه الآيات ويتعسف وفي تأويل التذكر بإقرار النفوس أنواعا من التعسفات ويتخايل إليه في الأخبار والآيات ضروب من المناقضات وربما يغلب ذلك عليه حتى ينظر إليها بعين الاستحقار ويعتقد فيها التهافت .

ومثاله مثال الأعمى الذي يدخل دارا فيعثر فيها بالأواني المصفوفة في الدار فيقول ما لهذه الأواني لا ترفع من الطريق وترد إلى مواضعها ، فيقال له إنها : في مواضعها وإنما الخلل في بصرك .

فكذلك ، خلل البصيرة يجري مجراه وأطم منه وأعظم إذ النفس كالفارس والبدن كالفرس وعمى الفارس أضر من عمى الفرس ولمشابهة بصيرة الباطن ، لبصيرة الظاهر قال الله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى وقال تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض الآية وسمي ضده عمى فقال تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وقال تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا وهذه الأمور التي كشفت للأنبياء بعضها كان بالبصر ، وبعضها كان بالبصيرة وسمي الكل رؤية .

وبالجملة من لم تكن بصيرته الباطنة ثاقبة لم يعلق به من الدين إلا قشوره وأمثلته دون لبابه وحقائقه .

فهذه أقسام ما ينطلق اسم العقل عليها .

التالي السابق


(ثم لما كان الإيمان مركوزا في النفوس) مودوعا فيها (بالفطرة) الأصلية (انقسم الناس إلى من أعرض) عنه، (فنسي) لتمادي العهد وهم الكفار، (وإلى من أجال خاطره) وأداره بحسن تفكره (فتذكر) ما كان منسيا (فكان كمن حمل شهادة فنسيها [ ص: 464 ] بغفلة) عنها (فتذكرها) فيما بعد فإن أصل التذكر محاولة القوة العقلية لاسترجاع ما فات بالنسيان، (ولذلك قال عز وجل: لعلهم يتذكرون) وقال تعالى: ( وليذكر أولو الألباب ) أي العقول وقال تعالى: ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ) وقال تعالى: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) وغير ذلك من الآيات التي فيها الذكر والتذكر (وتسمية هذا النمط) ، أي النوع (تذكرا ليس ببعيد) لغة (وكان التذكر ضربين) وتحقيق المقام، أن التذكر فرع عن الذكر، والذكر هو وجود الشيء في القلب، أو في اللسان، وذلك أن الشيء له أربع درجات وجوده في ذاته ووجوده في قلب الإنسان ووجوده في لفظه ووجوده في كتابته، فوجوده في ذاته هو سبب لوجوده في لسانه، ولوجوده في كتابته، ويقال: للوجودين أي الوجود في القلب، والوجود في اللسان الذكر، ولا اعتداد بذكر اللسان ما لم يكن ذلك عن ذكر في القلب، بل لا يكون ذلك ذكرا، والذكر بالقلب ضربان، (أحدهما أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه) باستثباته لها (لكن غابت) عنه (بعد الوجود) وانمحت عنه بنسيان أو غفلة فيستعيدها، وهذا هو في الحقيقة الذكر (والآخر أن يكون) التذكر (عن صورة كانت مضمنة فيه بالفطرة) المراد ثبات وجودها في القلب من غير نسيان أو غفلة، وذكر الله تعالى على نحو الأول غير مرتضى عند الأولياء، وإنما يحمد إذا كان على النوع الثاني، ثم إن ذكر الله تارة يكون لعظمته، فيتولد منه الإجلال والهيبة، وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن، وتارة لفضله فيتولد منه الرجاء، وتارة لنعمه فيتولد منه الشكر، وتارة للأفعال الباهرة فيتولد منه العبرة، ومن القسم الرابع قوله تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم ، (وهذه حقائق) جليلة، (ظاهرة للناظر بنور البصيرة) لا يمتري فيها ولا يتعلثم بدركها بأول وهلة، (ثقيلة على) إفهام (من يستر وجه السماع والتقليد) أي يكون التقليد والسماع من الأفواه، والاقتصار عليه يكون رائجا عنده فمثله لا يدرك تلك الحقائق (دون الكشف والعيان) أي المشاهدة وهو مقام اليقين، (وذلك تراه) أبدا (يتخبط في مثل هذه الآيات) أي يختلف كلامه فيها; لعدم بصيرته، (ويتعسف) أي يركب العسف والجور (في تأويل التذكر) والذكر (وإقرار النفوس) عند أخذ العهود (أنواعا) ضروبا (من التعسفات) الباطلة عند أهل الحق (وتتخايل إليه في الأخبار) النبوية (والآيات) الإلهية (ضروب) أنواع (من المناقضات) الباطلة (وربما يغلب ذلك عليه) فيصير طبعا مركوزا فيه (حتى ينظر إليها بعين الاستحقار) والمذلة، (ويعتقد فيها) من عدم بصيرته (التهافت) والتناقض فيقدم على الجمع بينها بقوة علمه الظاهر ولم يستضئ من نور المشاهدة والمعرفة عقله فيقع في محظور عظيم ضرره على العامة، أكثر من ضرر غيره، (ومثاله مثال الأعمى) فاقد البصر (الذي يدخل دارا) عظيمة المبنى مصفوفة فيها صفوف الأمتعة في مواضعها (فيعثر) برجله (فيها بالأواني المصفوفة) من الخزف الصيني والزجاج وغيرها، (فيقول) بلسانه الذي يعبر عن عقله القاصر، (ما لهذه الأواني لا ترفع من الطرق وترد إلى مواضعها، فيقال له: هي موضوعة في مواضعها) التي تليق بها (وإنما الخلل في البصر، وكذلك خلل البصيرة يجري مجراه) أي مجرى خلل البصر بل (وأطم منه) أي أكبر (وأعظم) ; لأن بارتفاع البصيرة ارتفاع النفع بالبصر (إذ النفس كالفلوس والبدن كالفرس) يتبعه حيث يريد (وعمى الفارس) بنفسه (أضر) أي أشد ضررا (من عمى الفرس ولمشابهة بصيرة الباطن، لبصيرة الظاهر قال الله تعالى) في كتابه العزيز في حق حبيبه صلى الله عليه وسلم ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال البيضاوي: أي ما رأى ببصره من صورة جبريل أو الله تعالى، أي ما كذب بصره ما حكاه له، فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب، ثم تنتقل منه إلى البصر، (وقال تعالى: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) وليكون من الموقنين ، واعلم أن النفوس القدسية إذا اطمأنت إلى الله تعالى تشعشعت بصيرتها كشعاع البصر وعند تعطيل الحواس بالنوم [ ص: 465 ] أو بالمراقبة ترجع النفس إلى عالم الملكوت ولها عروج في العلويات بحسب قوتها في الترقي والسير في عالم الملكوت فيعلو شعاع بصيرتها، إلى عالم الروحانيات كشعاع البصر في السماوات، وقد أثبت الله تعالى للعقل رؤية في هاتين الآيتين، وكذا في قوله: ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وأثبت له أبصارا في قوله: وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ، (وسمى ضده عمى فقال تعالى: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وقال تعالى: ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) قد فهم بفقدان البصيرة; تنبيها فقدانها اختياري إذ هو بتركهم استفادة العلم، وأكثر فقدان البصر ضروري، قال الله تعالى: الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري فلولا أن العين أراد بها البصيرة، لما قال تعالى: عن ذكري لأن الذكر لا يدرك بحاسة العين .

وقال ابن عباس لمن عيره بفقدان البصر: إنا نصاب بأبصارنا وأنتم تصابون في بصائركم، (وهذه الأمور التي كشفت للأنبياء) عليهم السلام، (بعضها كان بالبصر، وبعضها كان بالبصيرة وسمى الكل رؤية) كما في الآية المتقدمة، وكذا في قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم لأن للنفوس القدسية في سيرهم وترقيهم إلى عالم الملكوت معارج على قدر تبدل صفاتها بالسير عن خصائصها وبحسب تلطف ذاتها بالتزكية عن أوصافها، (وبالجملة من لم تكن بصيرته الباطنة ثاقبة) أي متوقدة مضيئة (لم يعلق به من الدين إلا قشوره وأمثلته) أي رسومه الظاهرة (دون لبابه وحقائقه) ومحضه وخلاصته، (وهذه حقائق ما ينطلق عليه اسم العقل) وفي أثناء ذلك الإشارة إلى ثمراته وما يتولد منه .




الخدمات العلمية