الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإنما فضل الصحابة لمشاهدتهم قرائن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتلاق قلوبهم أمورا أدركت بالقرائن فسددهم ذلك إلى الصواب من حيث لا يدخل في الرواية والعبارة ، إذ فاض عليهم من نور النبوة ما يحرسهم في الأكثر عن الخطأ .

وإذا كان الاعتماد على المسموع من الغير تقليدا غير مرضي فالاعتماد على الكتب والتصانيف أبعد بل الكتب والتصانيف محدثة لم يكن شيء منها في زمن الصحابة وصدر التابعين ، وإنما حدثت بعد سنة مائة وعشرين من الهجرة وبعد وفاة جميع الصحابة وجملة التابعين رضي الله عنهم وبعد وفاة سعيد بن المسيب والحسن وخيار التابعين بل كان الأولون يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب ; لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ وعن القرآن وعن التدبر والتذكر وقالوا : احفظوا كما كنا نحفظ .

ولذلك كره أبو بكر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم تصحيف القرآن في مصحف وقالوا: كيف نفعل شيئا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وخافوا اتكال الناس على المصاحف وقالوا نترك القرآن يتلقاه بعضهم من بعض بالتلقين والإقراء ليكون هذا شغلهم وهمهم حتى أشار عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة بكتب القرآن خوفا من تخاذل الناس وتكاسلهم وحذرا من أن يقع نزاع فلا يوجد أصل يرجع إليه في كلمة أو قراءة من المتشابهات فانشرح صدر أبي بكر رضي الله عنه لذلك فجمع القرآن في مصحف واحد .

وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك في تصنيفه الموطأ ويقول : ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضي الله عنهم وقيل : أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف التفاسير عن مجاهد وعطاء ، وأصحاب ابن عباس رضي الله عنهم بمكة .

ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن ، جمع فيه سننا مأثورة نبوية ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس ثم جامع سفيان الثوري .

التالي السابق


(وأما فضل الصحابة) رضي الله عنهم بخصوص التقليد (بمشاهدتهم) معاينة (قرائن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لملازمتهم له في أكثر الأوقات، (واعتلاق قلوبهم أمور الإدراك) مع البصيرة النافذة، (فسددهم ذلك إلى الصواب) ، ومعرفة الحق (من حيث لا يدخل في الرواية والعبارة، إذ فاض عليهم من نور النبوة) بإشراقه في صدورهم (ما يحرسهم) ويمنعهم (في الأكثر) من أحوالهم (عن) الوقوع في (الخطأ) فلأجل هذه الخصوصية خصوا بالتقليد لهم دون غيرهم من بعدهم; لأنهم بعدوا قليلا من تلك الأنوار، فلم ينالوا مقام أولئك الأبرار، (وإذا كان الاعتماد على المسموع من الغير تقليدا غير مرضي) كما قرر (فالاعتماد على الكتب والتصانيف أبعد) من أن يكون مرضيا، (بل الكتب والتصانيف محدثة) أي أحدثت فيما بعد (لم يكن شيء منها في زمن الصحابة وصدر التابعين، وإنما حدثت بعد) ، ولفظ القوت: لأن الكتب المجموعات محدثة، والقول بمقالات الناس، والفتيا بمذهب الواحد من الناس، وانتحاء قوله، والحكاية له في كل شيء والتفقه على مذهبه محدث لم يكن الناس قديما على ذلك في القرن الأول والثاني، وهذه المصنفات من الكتب حادثة بعد (مائة وعشرين من الهجرة) الشريفة (وبعد وفاة جميع الصحابة و) علية (التابعين) وآخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك بالبصرة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل بمكة، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وأبيض بن حمان المازني باليمن، وأبو قرصافة بالشام، وبريدة الأسلمي بخراسان، وعبد الله بن الحارث الزبيدي بمصر، (و) إنما وضع الكتب (بعد وفاة سعيد بن المسيب) بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد المدني سيد التابعين، وأفقههم وأعلمهم، وكان يسمى راوية عمر; لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه، وأقضيته، مات سنة أربع وتسعين، وهي سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها، (و) بعد وفاة (الحسن) بن أبي الحسن البصري، مات سنة عشر ومائة في خلافة هشام، (وخيار التابعين) من أقرانهما كعمرو بن دينار وأبي حازم الأعرج، وغيرهما وفيهم كثرة زاد صاحب القوت، بعد قوله: وخيار التابعين، وبعد سنة عشرين أو ثلاثين ومائة من تاريخ الهجرة، (بل كان الأول) الذين هم أئمة هؤلاء العلماء من طبقات الصحابة الأربعة، ومن بعد موت الطبقة الأولى، من خيار التابعين الذين انقرضوا قبل وضع الكتب، كانوا (يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب; لئلا يشتغلوا بها عن الحفظ) في الصدور، (وعن القرآن وعن التدبر) في معانيه، وأسراره (و) التذكر و (التفكر وقالوا: احفظوا) ما تسمعون منا (كما كنا نحفظ) وأخرج أبو نعيم من رواية داود بن رشيد قال: حدثنا أبو المليح قال: كنا لا نطمع أن نكتب عند الزهري حتى أكره هشام الزهري فكتب لبنيه فكتب الناس يعني الحديث، وأخرج أيضا من رواية إبراهيم بن سعيد، قال: سمعت سفيان يقول: قال الزهري: كنا نكره الكتاب حتى أكرهنا هشام عليه فكرهنا أن نمنعه الناس قال صاحب القوت: (و) لئلا يشتغلوا عن الله تعالى برسم ولا وسم (و) لذلك، ونص القوت، كما (كره أبو بكر) عبد الله بن عثمان الصديق (رضي الله عنه وجماعة من الصحابة) ونص القوت: وعليه الصحابة (شكل القرآن في المصحف) ، وفي نسخة: تصحيف القرآن في مصحف، وهو بعينه نص القوت، (وقالوا) : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وخشوا اشتغال الناس بالصحف، واتكالهم على المصاحف، فقالوا: (نترك القرآن يتلقاه بعضهم عن بعض) تلقيا (بالتلقين والإقراء ليكون) هو (شغلهم وهمهم) وفكرهم، (حتى أشار) عليه (عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة فكتب القرآن) في المصاحف (خوفا من تخاذل الناس وتكاسلهم) في جمعه وحفظه، (وحذرا من أن يقع نزاع فلا يوجد أصل يرجع إليه في كلمة أو قراءة من الشبهات) ، ولفظ [ ص: 434 ] القوت: حتى أشار إليه عمر وبقية الصحابة أن تجمع القرآن في المصاحف; لأنه أحفظ له وليرجع الناس إلى المصحف لما لا يؤمن من الاشتغال بأسباب الدنيا عنه، (فانشرح) وفي القوت: فشرح الله، (صدر أبي بكر لذلك فجمع القرآن) من الصحف المتفرقة (في مصحف واحد) وكذلك كانوا يتلقون العلم بعضهم من بعض، ويحفظونه حفظا هذا لطهارة القلوب من الريب وفراغها من أسباب الدنيا وقوة الإيمان وصفاء اليقين، وعلو الهمة، وحسن النية وقوة العزيمة، (وكان أحمد بن حنبل) الإمام (ينكر على مالك) الإمام، (تصنيفه الموطأ ويقول: ابتدع ما لم تفعله الصحابة) ، ولعل هذا الإنكار كان في مبادئ أمره وإلا فقد جمع حديثه بنفسه على المسانيد، وذلك لما رأى احتياج الناس إلى ذلك، (وقيل: أول كتاب صنف في الإسلام كتاب) عبد الملك بن عبد العزيز (ابن جريج) القرشي الأموي مولاهم، مات سنة تسع وأربعين ومائة، (في الآثار) سئل أحمد بن حنبل من أول من صنف الكتب؟ قال: ابن جريج وابن أبي عروبة، وعن ابن جريج قال: ما دون العلم تدويني أحد، وقال يحيى بن سعيد: كنا نسمي كتب ابن جريج كتب الأمانة، وإن لم يحدثك ابن جريج من كتابه لم تنتفع به .

وأخرج أبو نعيم من رواية الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن الحسن بن زبالة، عن مالك بن أنس، قال: أول من دون العلم ابن شهاب (وحروف التفاسير عن عطاء ومجاهد، وأصحاب ابن عباس بمكة) هكذا أورده صاحب القوت، أما عطاء هو ابن أبي رباح أبو محمد المكي، كان أسود أعور أفطس، أشل أعرج، ثم عمي وكان ثقة فقيها عالما كثير الحديث إليه، انتهت الفتيا بمكة في زمانه، أدرك مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم ابن عمر مكة فسألوه، فقال: أتسألوني وفيكم ابن أبي رباح، مات سنة أربع عشرة ومائة، وأما مجاهد فهو ابن جبر المكي أبو الحجاج مولى بني مخزوم، قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدا يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، وقال خصيب: كان أعلمهم بالتفسير مجاهدا بالحج عطاء، مات سنة اثنين ومائة بمكة، (ثم كتاب معمر بن راشد الصغاني باليمن، جمع فيه سننا منثورة مبوبة) ، هكذا أورده صاحب القوت، ومعمر بن راشد هو أبو عروة بن أبي عمرو الأزدي مولاهم الحداتي البصري، سكن اليمن، وكان شهد جنازة الحسن، وقال أبو حازم: انتهى الإسناد إلى ستة نفر أدركهم معمر، وكتب عنهم لا أعلم اجتمع لأحد غيره من الحجاز الزهري، وعمرو بن دينار ومن الكوفة، أبو إسحاق، والأعمش ومن البصرة قتادة، ومن اليمامة يحيى ابن أبي كثير، وقال ابن معين: أثبت الناس في الزهري، مالك ومعمر ويونس، وعقيل، وشعيب، وابن عيينة، وقال ابن جريج عليكم بهذا الرجل، فإنه لم يبق أحد من أهل زمانه أعلم منه، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وقال: كان فقيها متفننا حافظا ورعا مات سنة أربع وخمسين ومائة، (ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس) ، الأصبحي الإمام، تقدمت ترجمته، توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وشأن كتابه الموطأ مشهور وفيه: قال الشافعي: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من الموطأ .

(ثم جامع سفيان) بن سعيد (الثوري) في الفقه والأحاديث، ثم جمع ابن عيينة كتاب الجامع في السنن والأبواب، وكتاب التفسير في أحرف من علم القرآن، فهذه أول ما صنف ووضع من الكتب بعد وفاة ابن المسيب والحسن.

وقال الحافظ ابن حجر في أول مقدمة فتح الباري: واعلم أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه، وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين; أحدهما أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك، كما ثبت في صحيح مسلم خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم، وثانيهما: ما لسعة حفظهم وسيلان أذهانهم; ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، حتى حدث في أواخر عصر التابعين، تدوين الآثار وتبويب الأخبار لما انتشرت العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج، والروافض، ومنكري الأقدار، فأول من جمع ذلك الربيع ابن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهما، وكانوا يصنعون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام، فصنف مالك الموطأ، وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين، ومن بعدهم، وصنف ابن جريج بمكة والأوزاعي بالشام والثوري بالكوفة، وحماد [ ص: 435 ] ابن سلمة بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسخ على منوالهم، إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم، خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنف عبد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسندا، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد، كالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء، ومنهم من صنف على الأبواب والمسانيد معا كأبي بكر بن أبي شيبة اهـ .




الخدمات العلمية