الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الجملة الثانية في آداب الإحرام من الميقات إلى دخول مكة وهي خمسة :

الأول : أن يغتسل ، وينوي به غسل الإحرام ؛ أعني إذا انتهى إلى الميقات المشهور الذي يحرم الناس منه

التالي السابق


(الجملة الثانية في آداب الإحرام من الميقات )

المكاني (إلى) حين (دخول مكة) شرفها الله تعالى ، وهي خمسة (الأول : أن يغتسل ، وينوي به غسل الإحرام ؛ أعني إذا انتهى إلى الميقات المشهور الذي يحرم الناس منه) ، وهذا الغسل من الأغسال المسنونة المستحبة ، وهي تسعة ، هذا أحدها ، ويأتي بيان البقية في شرح الجملة الثالثة قريبا .

اعلم أن من سنن الإحرام أن يغتسل إذا أراد الإحرام ، فقد روى الترمذي ، والدارقطني ، والبيهقي ، والطبراني من حديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله ، واغتسل . حسنه الترمذي ، وضعفه العقيلي ، وروى الحاكم ، والبيهقي من طريق يعقوب بن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : اغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم لبس ثيابه ، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ، ثم قعد على بعيره ، فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج ، ويعقوب ضعيف ، ويستوي في استحبابه الرجل ، والمرأة ، والصبي ، وإن كانت حائضا ، أو نفساء ؛ لأن المقصود من هذا الغسل التنظيف ، وقطع الروائح الكريهة لدفع أذاها عن الناس عند اجتماعهم ، فقد روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر أنها نفست بذي الحليفة ، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل للإحرام . ولو كانت يمكنها المقام بالميقات حتى تطهر ، فالأولى أن تؤخر الإحرام حتى تطهر ، وتغتسل ليقع إحرامها على أكمل حالها ، وإذا لم يجد المحرم ماء ، أو لم يقدر على استعماله تيمم ؛ لأن التيمم عن الغسل الواجب ، ففي المندوب أولى . نص عليه في الأم ، واختار إمام الحرمين أنه لا يتيمم ، وجعله وجها في المذهب ، وإن لم يجد من الماء ما يكفيه للغسل توضأ . قاله صاحب التهذيب . قال النووي : وكذا المحاملي ، فإن أراد أنه يتوضأ ، ثم يتيمم فحسن ، وإن أراد الاقتصار فليس بجيد ؛ لأن المطلوب هو الغسل ، والتيمم يقوم مقامه دون الوضوء ، والله أعلم .

وحكى إبراهيم المروزي قولا أنه لا يسن للحائض ، والنفساء الاغتسال ، وإذا اغتسلتا فهل تنويان ؟ فيه نظر لإمام الحرمين ، والظاهر أنهما ينويان ؛ لأنهما يقيمان مسنونا .



[ ص: 333 ] (فصل)

وقال صاحب الهداية من أصحابنا : وإذا أراد الإحرام اغتسل ، أو توضأ ، والغسل أفضل لما روي فيه ، إلا أنه للتنظيف حتى تؤمر به الحائض ، وإن لم يقع فرضا عنها ، فيقوم الوضوء مقامه كما في الجمعة ، ولكن الغسل أفضل ؛ لأن معنى التنظيف به أتم ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - اختاره . أهـ .

والحاصل أن من أراد أن يحرم يستحب له أن يغتسل ، فقد أخرج ابن أبي شيبة ، والبزار ، والدارقطني ، والحاكم من حديث ابن عمر أنه قال : السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم ، والمراد بهذا الغسل تحصيل النظافة ، وإزالة الرائحة حتى تؤمر به الحائض ، والنفساء ، ولا يتصور حصول الطهارة لها بهذا الغسل ، ولذا قالوا : لا يعتبر التيمم عند العجز عن الماء بخلاف الجمعة ، والعيدين ، وسوى في الكافي بين الإحرام ، والجمعة ، والعيدين . قال عمر بن نجيم في شرح الكنز ، وهو التحقيق ؛ لأن التراب لا أثر له في تحصيل النظافة ؛ لأنه ملوث ، ويغبر . أهـ .

فالتيمم لا ينوب عن غسل الإحرام اتفاقا ، والوضوء ينوب عنه ، وهل ينوب عن غسل الجمعة ، والعيدين ، فالمشهور أنه ينوب ، والتحقيق أنه لا ينوب .



(فصل)

وأما اعتبار هذا الغسل ، فاعلم أن الطهارة الباطنة في كل عبادة واجبة عند أهل الله إلا من يرى أن المكلف إنما هو الظاهر في مظهر ما عن أعيان الممكنات ، فإنه يراه سنة لا وجوبا ، ومن يرى من أهل الله أن الاستعداد الذي هو عليه عين المظهر كما أثر في الظاهر فيه أن يتميز عن ظهور آخر بأمر ما ، وباسم ما من حيوان ، أو إنسان ، أو مضطر ، أو بالغ ، أو عاقل ، أو مجنون ، فذلك الاستعداد عينه أوجب عليه الحكم بأمر ما ، كما أوجبه الاسم ، فقال له : اغتسل لإحرامك ، أي : تطهر بجمعك حتى تعم الطهارة ذاتك لكونك تريد أن تحرم عليك أفعالا مخصوصة لا يقتضي فعلها هذه العبادة الخاصة المسماة حجا ، أو عمرة ، فاستقبالها بصفة تقديس أولى ؛ لأنك تريد بها الدخول على الاسم القدوس ، فلا تدخل عليه إلا بصفة ، وهي الطهارة ، كما لم تدخل عليه إلا بأمره ، إذ المناسبة شرط في التواصل ، والصحبة ، فوجب الغسل ، ومن رأى أنه إنما تحرم على المحرم أفعال مخصوصة لا جميع الأفعال قال : فلا يجب عليه الغسل الذي هو عموم الطهارة ؛ ، فإنه لم يحرم عليه جميع أفعاله ، فيجزئ الوضوء ؛ فإنه غسل أعضاء مخصوصة من البدن ، كما أنه ما يحرم عليه إلا أفعال مخصوصة في أفعاله ، وإن اغتسل فهو أفضل ، وكذلك إن عمم الطهارة الباطنة فهو أولى ، وأفضل ، والله أعلم .




الخدمات العلمية