الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته .

وهو فوق العرش والسماء ، وفوق كل شيء ، إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء ، كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء ، كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى .

وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد وهو على كل شيء شهيد إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام ، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام وأنه ، لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء ، تعالى عن أن يحويه مكان كما تقدس عن أن يحده زمان بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان .

التالي السابق


(لا يحمله العرش) كما يقول بعض المجسمة؛ نظرا إلى ظاهر لفظ "فوق"، (بل العرش وحملته) وهم الملائكة الموكلون بحمله (محمولون بلطف قدرته) الباهرة (ومقهورون في قبضته) القاهرة (وهو) تعالى (فوق العرش، وفوق كل شيء، إلى تخوم الثرى) أي: حدود الأرض، جمع: تخم، كفلوس وفلس، وقال: ابن الأعرابي وابن السكيت: الواحد تخوم، والجمع تخم، كرسول ورسل (فوقية) تليق بجليل ذاته بحيث (لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى) قال أبو إسحاق الشيرازي: فلو كان في جهة فوق، لما وصف العبد بالقرب منه إذا سجد، بل هو تعالى (رفيع الدرجات) والرفعة العلو، يقال: هو رفيع القدر، أي: عالي المنزلة والشرف، والدرجات جمع درجة، والمراد بها المرتبة المعنوية (عن العرش والسماء، كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى) ولم يرد رفيع في أسمائه تعالى إلا مقيدا بمضاف إليه، وهو الدرجات، وقال أبو منصور البغدادي: تفسير الدرجات فيما يليه، وهو ذو العرش; لأن العرش هو الدرجات الرفيعة؛ إذ لا جسم أعلى من العرش، وليس معنى "رفيع الدرجات" كونه على درجات مرتفعة; لأنه يستحيل كونه في مكان، لكن معناه: أنه رفيع العرش، أي أن العرش الرفيع له، هو خالقه ومالكه؛ فهو بأن يكون مالكا خالقا لما دونه أولى. اهـ .

ولا يخفى ما فيه من التكلف، وسياق المصنف يأباه كذلك، فتأمل (وهو مع ذلك قريب من كل موجود) وإطلاق لفظ القريب عليه تعالى دل عليه في القرآن قوله عز وجل: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ، ومعناه القرب على معنى العلم منه بعباده وبأحوالهم (وهو أقرب إلى العبيد من حبل الوريد) عرق بين الحلقوم والعلباوين، وهو ينبض أبدا، وهو من الأوردة التي فيها الحياة، ولا يجري فيها الدم، بل هي تجاري النفس بالحركات، قاله الفراء، كما في المصباح، وهذا معنى قوله تعالى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، أي: أعلم منه بنفسه، وقوله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- : واسجد واقترب ، دليل على أن المراد به قرب المنزلة، لا قرب المكان، كما زعمت المجسمة أنه مماس لعرشه؛ إذ لو كان كذلك لازداد بالسجود منه بعدا، لا قربا .

(وهو على كل شيء شهيد) أي: شاهد حاضر وحفيظ عالم، لا يغيب عنه شيء، فعلى هذا هو من صفاته الأزلية التي استحقها لأجل علمه القديم، ولم يزل شهيدا (إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام، كما لا تماثل ذاته) الشريفة (ذات الأجسام، وإنه) تعالى (لا يحل في شيء) ، لا ذاته ولا صفاته، أما ذاته فلأن الحلول هو الحصول في الحيز تبعا، والله تعالى منزه عن التحيز، ولأن الحلول ينافي الوجوب الذاتي؛ لافتقار الحال إلى المحل، وأما صفاته فلأن الانتقال من صفات الأجسام، والله تعالى منزه عن الجسمية، كما مر (ولا يحل فيه شيء، تعالى) وتقدس (عن أن يحويه مكان) فيشار إليه أو تضمه جهة، وإنما اختصت السماء برفع الأيدي إليها عند الدعاء؛ لأنها جعلت قبلة الأدعية، كما أن الكعبة جعلت قبلة المصلي، يستقبلها في الصلاة، ولا يقال: إن الله تعالى في جهة الكعبة (كما تقدس عن أن يحده زمان) ؛ لأن المحدود محتو على أجزاء الماهية، والله تعالى منزه عن ذلك كما تقدم (بل كان) تعالى (قبل أن يخلق الزمان والمكان) والعرش والكرسي والسموات والأرضين (وهو الآن على ما عليه) من سلطة الأزلية، كما (كان) قبل خلقه الزمان والمكان وغيرهما .




الخدمات العلمية