ولاختلافها سببان : أحدهما قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداد مدة الوجود ، فإن قوة الشهوة والغضب والتكبر موجودة في الإنسان ، ولكن أصعبها أمرا وأعصاها على التغيير قوة الشهوة ، فإنها أقدم وجودا إذ الصبي في مبدإ الفطرة تخلق له الشهوة ثم بعد سبع سنين ، ربما يخلق له الغضب وبعد ذلك يخلق له قوة التمييز .
والسبب الثاني أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حسنا ومرضيا ، والناس فيه على أربع مراتب .
الأولى وهو الإنسان الغفل الذي لا يميز بين الحق والباطل والجميل والقبيح بل بقي كما فطر عليه خاليا عن جميع الاعتقادات ولم تستتم شهوته أيضا باتباع اللذات فهذا سريع القبول للعلاج جدا فلا يحتاج إلا إلى معلم ومرشد وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة ، فيحسن خلقه في أقرب زمان .
والثانية : أن يكون قد عرف قبح القبيح ولكنه لم يتعود العمل الصالح بل زين له سوء عمله فتعاطاه انقيادا لشهواته وإعراضا عن صواب رأيه لاستيلاء الشهوة عليه ولكن علم تقصيره في عمله فأمره أصعب من الأول إذ قد تضاعفت الوظيفة عليه ، إذ عليه قلع ما رسخ في نفسه أولا من كثرة الاعتياد للفساد والآخر أن يغرس في نفسه صفة الاعتياد للصلاح ولكنه بالجملة محل قابل للرياضة إن انتهض لها بجد وتشمير وحزم .
والثالثة : أن يعتقد في الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة وأنها حق وجميل وتربى عليها فهذا يكاد تمتنع معالجته ولا يرجى صلاحه إلا على الندور وذلك لتضاعف أسباب الضلال .
والرابعة : أن يكون مع نشئه على الرأي الفاسد وتربيته على العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر واستهلاك النفوس ويباهي به ويظن أن ذلك يرفع قدره وهذا هو أصعب المراتب وفي مثله قيل ومن العناء رياضة الهرم ومن : التعذيب تهذيب الذيب .
والأول من هؤلاء جاهل فقط .
والثاني جاهل وضال .
والثالث جاهل وضال وفاسق .
والرابع جاهل وضال وفاسق وشرير .
وأما الخيال الآخر الذي استدلوا به وهو قولهم إن الآدمي ما دام حيا فلا تنقطع عنه الشهوة والغضب وحب الدنيا وسائر هذه الأخلاق ، فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات ؛ فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان ولو انقطعت .
شهوة الوقاع لانقطع النسل ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك .
ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك على إمساك المال ، وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية ، بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط والمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية ، وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعا وبالجملة أن يكون في نفسه قويا ، ومع قوته منقادا للعقل ولذلك قال الله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم وصفهم بالشدة ، وإنما تصدر الشدة عن الغضب ، ولو بطل الغضب لبطل الجهاد وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب ، بالكلية والأنبياء عليهم السلام لم ينفكوا عن ذلك إذ ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " ، وكان إذا تكلم بين يديه بما يكرهه يغضب حتى تحمر وجنتاه ، ولكن لا يقول إلا حقا ، فكان عليه السلام لا يخرجه غضبه عن الحق ، وقال تعالى: إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ولم يقل والفاقدين الغيظ فرد الغضب والشهوة إلى حد الاعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه ، بل يكون العقل هو الضابط له والغالب عليهما ممكن وهو المراد بتغيير الخلق ، فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على دفعها عن الانبساط عن الفحش، وبالرياضة تعود إلى حد الاعتدال ، فدل أن ذلك ممكن ، والتجربة والمشاهدة تدل على ذلك دلالة لا شك فيها ، والذي يدل على أن المطلوب الوسط في الأخلاق دون الطرفين أن السخاء خلق محمود شرعا وهو وسط بين طرفي التبذير والتقطير ، وقد أثنى الله تعالى عليه فقال: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وقال تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والخمود قال تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين وقال في الغضب: أشداء على الكفار رحماء بينهم وقال صلى الله عليه وسلم: خير الأمور أوساطها وهذا له سر وتحقيق وهو أن السعادة منوطة بسلامة القلب عن عوارض هذا العالم ، إلا من أتى الله بقلب سليم والبخل من عوارض الدنيا والتبذير ، أيضا من عوارض الدنيا وشرط القلب أن يكون سليما منهما أي لا يكون ملتفتا إلى المال ولا ، يكون حريصا على إنفاقه ولا على إمساكه فإن الحريص على الإنفاق مصروف القلب إلى الإنفاق ، كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك فكان ، كمال القلب أن يصفو عن الوصفين جميعا وإذا لم يكن ذلك في الدنيا طلبنا ما هو الأشبه لعدم الوصفين وأبعد عن الطرفين وهو الوسط ، فإن الفاتر لا حار ولا بارد بل هو ، وسط بينهما ، فكأنه خال عن الوصفين ، فكذلك السخاء بين التبذير والتقتير ، والشجاعة بين الجبن والتهور ، والعفة بين الشره والجمود ، وكذلك سائر الأخلاق ، فكلا طرفي الأمور ذميم هذا ، هو المطلوب ، وهو ممكن ، نعم يجب على الشيخ المرشد للمريد أن يقبح عنده الغضب رأسا ، ويذم إمساك المال رأسا ، ولا يرخص له في شيء منه لأنه لو رخص له في أدنى شيء اتخذ ذلك عذرا في استبقاء بخله وغضبه ، وظن أنه القدر المرخص فيه فإذا ، قصد الأصل وبالغ فيه ولم يتيسر له إلا كسر . قال الله تعالى :
سورته بحيث يعود إلى الاعتدال ، فالصواب له أن يقصد قلع الأصل حتى يتيسر له القدر المقصود ، فلا يكشف هذا السر للمريد ، فإنه موضع غرور الحمقى إذ يظن بنفسه أن غضبه بحق وأن إمساكه بحق .