بيان . آفة الرياء المتطرق إلى من ترك أكل الشهوات وقلل الطعام
اعلم أنه يدخل على تارك الشهوات آفتان عظيمتان ، هما أعظم من أكل الشهوات .
إحداهما أن لا تقدر النفس على ترك بعض الشهوات ، فتشتهيها ، ولكن لا يريد أن يعرف بأنه يشتهيها ، وهذا هو الشرك الخفي سئل بعض العلماء عن بعض الزهاد ، فسكت عنه ، فقيل له : هل تعلم به بأسا ؟ قال : يأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة وهذه آفة عظيمة ، بل حق العبد إذا ابتلي بالشهوات وحبها أن يظهرها فإن هذا صدق الحال وهو بدل عن فوات المجاهدات بالأعمال فإن إخفاء النقص وإظهار ضده من الكمال هو نقصانان متضاعفان ، والكذب مع الإخفاء كذبان فيكون مستحقا لمقتين ولا يرضى منه إلا بتوبتين صادقتين . فيخفي الشهوة ويأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة
، ولذلك شدد أمر المنافقين فقال تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار لأن الكافر كفر وأظهر وهذا كفر وستر فكان ستره لكفره كفرا آخر ; لأنه استخف بنظر الله سبحانه وتعالى إلى قلبه ، وعظم نظر المخلوقين ، فمحا الكفر عن ظاهره والعارفون يبتلون بالشهوات بل بالمعاصي ولا يبتلون بالرياء والغش والإخفاء بل كمال ويظهر من نفسه الشهوة ؛ إسقاطا لمنزلته من قلوب الخلق وكان بعضهم يشتري الشهوات ويعلقها في البيت وهو فيها من الزاهدين وإنما يقصد به تلبيس حاله ليصرف عنه نفسه قلوب الغافلين حتى لا يشوشون عليه حاله . العارف أن يترك الشهوات لله تعالى
فنهاية الزهد الزهد في الزهد ، بإظهار ضده وهذا عمل الصديقين فإنه جمع بين صدقين ، كما أن الأول جمع بين كذبين ، وهذا قد حمل على النفس ثقلين وجرعها كأس الصبر مرتين ; مرة بشربه ، ومرة برميه فلا جرم أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ، وهذا يضاهي طريق من يعطي جهرا فيأخذ ويرد سرا ليكسر نفسه بالذل جهرا وبالفقر سرا فمن فاته هذا فلا ينبغي أن يفوته إظهار شهوته ونقصانه ، والصدق فيه ولا ينبغي أن يغره قول الشيطان : إنك إذا أظهرت اقتدى بك غيرك ، فاستره ؛ إصلاحا لغيرك فإنه لو قصد إصلاح غيره لكان إصلاح نفسه أهم عليه من غيره فهذا إنما يقصد الرياء المجرد ويروجه الشيطان عليه في معرض إصلاح غيره ، فلذلك ثقل عليه ظهور ذلك منه واعلم ، أن من اطلع عليه ليس يقتدى به في الفعل أو لا ، ينزجر باعتقاده أنه تارك للشهوات .