فإن قلت : فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه ؟ فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة ، والرياء والنفاق ، والفحش والمراء ، وتزكية النفس والخوض في الباطل ، والخصومة والفضول ، والتحريف والزيادة والنقصان ، وإيذاء الخلق ، وهتك العورات .
فهذه آفات كثيرة ، وهي صيانة إلى اللسان ، لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب ، وعليها بواعث من الطبع ، ومن الشيطان والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ، ويكفه عما لا يحب فإن ذلك من غوامض العلم كما سيأتي تفصيله ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة فلذلك عظمت فضيلته هذا مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر ، والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ، ومن حسابه في الآخرة ، فقد قال الله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .
ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر ، وهو أن الكلام أربعة أقسام : قسم هو ضرر محض ، وقسم هو نفع محض ، وقسم فيه ضرر ومنفعة ، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة .
أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه ، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة ; لا تفي بالضرر .
وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر ، فهو فضول ، والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران ، فلا يبقى إلا القسم الرابع فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع ، وهذا الربع فيه خطر ، إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة ، وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطرا ومن عرف دقائق آفات اللسان على ما سنذكره علم قطعا أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصل الخطاب حيث قال : من صمت نجا .
فلقد أوتي والله جواهر الحكم قطعا ، وجوامع الكلم ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء .


