الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآفة الرابعة المراء والجدال .

وذلك منهي عنه ، قال صلى الله عليه وسلم : لا تمار أخاك ، ولا تمازحه ، ولا تعده موعدا فتخلفه وقال عليه السلام : ذروا المراء فإنه لا تفهم حكمته ، ولا تؤمن فتنته وقال صلى الله عليه وسلم : من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة ، ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما عهد إلي ربي ونهاني عنه بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر : ملاحاة الرجال وقال أيضا : ما ضل قوم بعد أن هداهم الله تعالى إلا أوتوا الجدل وقال أيضا: لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقا .

وقال أيضا : ست من كن فيه بلغ حقيقة .

الإيمان : الصيام في الصيف وضرب أعداء الله بالسيف وتعجيل الصلاة في اليوم الدجن والصبر على المصيبات وإسباغ الوضوء على المكاره ، وترك المراء وهو صادق : وقال الزبير لابنه لا تجادل الناس بالقرآن ؛ فإنك لا تستطيعهم ، ولكن عليك بالسنة وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل وقال مسلم بن يسار إياكم والمراء ؛ فإنه ساعة جهل العالم ، وعندها يبتغي الشيطان زلته وقيل : ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله إلا بالجدل وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه ليس هذا الجدال من الدين في شيء ، وقال أيضا : المراء يقسي القلوب ، ويورث الضغائن، وقال لقمان لابنه يا بني : لا تجادل العلماء فيمقتوك وقال بلال بن سعد إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا معجبا برأيه ، فقد تمت خسارته وقال سفيان لو خالفت أخي في رمانة فقال : حلوة . وقلت : حامضة ؛ لسعى بي إلى السلطان وقال أيضا : صاف من شئت ، ثم أغضبه بالمراء ، فليرمينك بداهية تمنعك العيش وقال ابن أبي ليلى لا أماري صاحبي ، فإما أن أكذبه ، وإما أن أغضبه وقال أبو الدرداء كفى بك إثما أن لا تزال مماريا وقال صلى الله عليه وسلم تكفير : كل لحاء ركعتان وقال عمر رضي الله عنه : لا تتعلم العلم لثلاث ، ولا تتركه لثلاث :

لا تتعلمه لتماري به ، ولا لتباهي به ، ولا لترائي به ، ولا تتركه حياء من طلبه ، ولا زهادة فيه ، ولا رضا بالجهل منه .

وقال عيسى عليه السلام : من كثر كذبه ذهب جماله ، ومن لاحى الرجال سقطت مروءته ، ومن كثر همه سقم جسمه ، ومن ساء خلقه عذب نفسه وقيل لميمون بن مهران ما لك لا تترك أخاك عن قلى ؟ قال : لأني لا أشاريه ولا أماريه وما ورد في ذم المراء والجدال أكثر من أن يحصى .

.

التالي السابق


(الآفة الرابعة المراء والجدال )

(وذلك منهي عنه، قال صلى الله عليه وسلم: لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعدا فتخلفه ) ، قال العراقي : رواه الترمذي من حديث ابن عباس ، وقد تقدم. اهـ .

قلت: وقال الترمذي : غريب، وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن أبي شيبة قاسم ، حدثنا المحاربي ، عن ليث ، عن عبد الملك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ذروا المراء) أي: اتركوه؛ (فإنه لا تفهم حكمته، ولا تؤمن فتنته) ، قال العراقي : رواه الطبراني من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وأبي أمامة ، وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع ، بسند ضعيف دون قوله: "لا تفهم حكمته"، ورواه بهذه الزيادة ابن أبي الدنيا موقوفا على ابن مسعود ، وفيه من لم يسم. اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن إسحاق الباهلي ، حدثنا سفيان ، قال: حدثني رجل صالح قال: قال ابن مسعود : المراء لا تعقل حكمته، ولا تؤمن فتنته .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة ) ، تقدم في كتاب العلم .

وأخرج ابن أبي الدنيا عن هارون بن معروف "أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وجبت، وجبت. فقال أصحابه: ما هذا الذي قلت يا رسول الله؟ قال: من ترك المراء وهو محق بني له في ربض الجنة، ومن ترك الكذب بني له في ربض الجنة، ومن حسن خلقه بني له في ربض الجنة" . وقد صحح أحمد بن صالح هذا الحديث، وأثبت لمالك بن أوس رواية، والمشهور أن له رؤية فقط، وقال ابن خزيمة : في القلب من سلمة بن وردان شيء، ورواه ابن منده في معجم الصحابة، إلا أنه قال: مالك بن أوس بن الحدثان عن أبيه، ورواه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أنس ، (وعن [ ص: 470 ] أم سلمة ) أم المؤمنين (رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول ما عهد إلي ربي ونهاني عنه بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر: ملاحاة الرجال ) ، قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا في الصمت، والطبراني والبيهقي بسند ضعيف، وقد رواه أبو داود في المراسيل من حديث عروة بن رويم . اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا : حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، أخبرني أبي عن يحيى بن المتوكل ، عن إسماعيل بن رافع ، عن ابن أم سلمة ، عن أم سلمة قالت.. فساقه، (وقال) صلى الله عليه وسلم (أيضا: ما ضل قوم إلا أوتوا الجدل ) قال العراقي : رواه الترمذي من حديث أبي أمامة وصححه، وزاد فيه: بعد هدى كانوا عليه ، وتقدم في العلم، وهو عند ابن أبي الدنيا دون هذه الزيادة، كما ذكره المصنف. اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا : حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، حدثنا الحجاج بن دينار ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل. ثم قرأ: ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ، (وقال) صلى الله عليه وسلم (أيضا: ست) خصال (من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان: الصيام في الصيف) يعني في الحر الشديد (وضرب أعداء الله بالسيف) ، أي: قتال الكفار بالسلاح، وخص السيف; لأنه أعمها استعمالا، (والتعجيل في الصلاة) في (اليوم الدجن) أي: الغيم والمطر الكثير، (والصبر على المصيبات) عند الصدمة الأولى، (وإسباغ الوضوء على المكاره، وترك المراء وهو صادق) ، قال العراقي : رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي مالك الأشعري بسند ضعيف، بلفظ: " ست خصال من الخير .." ، الحديث. اهـ .

قلت: الديلمي إنما رواه من حديث أبي سعيد بلفظ: "ست من كن فيه كان مؤمنا حقا، إسباغ الوضوء والمبادرة إلى الصلاة في يوم دجن، وكثرة الصوم في شدة الحر، وقتل الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وترك المراء، وإن كنت محقا" . وفي سنده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، وهو متروك واه، وقد رواه ابن نصر أيضا بهذا السند .

وأما حديث أبي مالك الأشعري فقد أخرجه البيهقي بلفظ: "ست خصال من الخير، جهاد أعداء الله بالسيف، والصوم في يوم الصيف، وحسن الصبر عند المصيبة، وترك المراء وأنت محق، وحسن الوضوء في أيام الشتاء" . رواه من طريق يحيى بن أبي طالب ، عن الحارث الواسطي عن بحر بن كنيز ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن أبي مالك الأشعري ، ثم قال: بحر بن كنيز السقاء ضعيف .

(وقال) صلى الله عليه وسلم (أيضا: لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يذر المراء وإن كان محقا ) ، قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة بسند ضعيف، وهو عند أحمد بلفظ: "لا يؤمن العبد حتى يترك الكذب في المزاحة، والمراء وإن كان صادقا" . اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا في الصمت: حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، عن عباد بن العوام ، عن عبد الله بن سعيد ، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقا، ويدع كثيرا من الحديث مخافة الكذب" . وقد أخرجه كذلك في كتاب ذم الغيبة له .

وأما حديث أحمد فقد أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط بلفظ: "لا يؤمن عبد الإيمان كله.." . والباقي سواء، (وقال الزبير) بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبو عبد الله القرشي الأسدي، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، قتل سنة ست وثلاثين بعد منصرفه من وقعة الجمل، روى له الجماعة، (لابنه) عبد الله بن الزبير ، كان أول مولود بالإسلام بالمدينة من المهاجرين، وولي الخلافة تسع سنين إلى أن قتل في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين، ( لا تجادل الناس بالقرآن؛ فإنك لا تستطيعهم، ولكن عليك بالسنة ) فجادلهم بها، (وقال عمر بن عبد العزيز) رحمه الله تعالى: ( من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل ) أخرجه ابن أبي الدنيا عن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد قال: قال عمر بن عبد العزيز .. فذكره، (وقال مسلم بن يسار) المصري أبو عثمان الطنبذي مولى الأنصار، روى له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه : ( إياكم والمراء؛ فإنه ساعة جهل العالم، وعندها يبغي الشيطان زلته ) أخرجه ابن أبي الدنيا عن خالد بن خداش ، حدثنا حماد بن زيد ، عن محمد بن واسع قال: كان مسلم بن يسار يقول.. فذكره، وزاد فقال: قال حماد [ ص: 471 ] قال لنا محمد : هذا الجدال، هذا الجدال. (وقيل: ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله إلا بالجدال ) ، رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه مرفوعا نحوه، وقد ذكر قريبا، (وقال مالك بن أنس ) رحمه الله: ( ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وقال أيضا: المراء يقسي القلب، ويورث الضغائن ) أي: الأحقاد، (وقال لقمان لابنه: لا تجادل العلماء فيمقتوك) ، والمقت أشد الغضب، (وقال بلال بن سعد) بن تميم الأشعري أبو عمرو الدمشقي، ثقة، عابد، فاضل، مات في خلافة هشام : (إذا رأيت الرجل لجوجا) كثير اللجاج في الكلام (مماريا معجبا برأيه، فقد تمت خسارته) أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وقال سفيان) الثوري رحمه الله تعالى: (لو خالفت أخي في رمانة فقال: هي حلوة. وقلت:) بل هي (حامضة؛ لسعى بي إلى السلطان) أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وقال أيضا: صاف من شئت، ثم أغضبه) مرة (بالمراء، فليرمينك بداهية تمنعك العيش) ، أي: المعيشة. أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وقال ابن أبي ليلى) عبد الرحمن الأنصاري المدني، ثم الكوفي، مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين: (لا أماري صاحبي، فإما أن أكذبه، وإما أن أغضبه) ، أخرجه ابن أبي الدنيا عن علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن الحكم قال: قال عبد الرحمن بن أبي ليلى ، فذكره، ووقع في نسخة الصمت: وإما أن أبغضه، (وقال أبو الدرداء ) رضي الله عنه: ( كفى بك إثما ألا تزال مماريا ) أخرجه ابن أبي الدنيا عن إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا جرير ، عن برد ، عن سليمان بن موسى قال: قال أبو الدرداء .. فذكره .

(وقال صلى الله عليه وسلم: يكفر كل لحاء ركعتان ) واللحاء: الملاحاة، وهي الملاجة والمماراة، قال العراقي : رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف، ( وقال عمر رضي الله عنه: لا تتعلم العلم لثلاث، ولا تتركه لثلاث: لا تتعلمه لتماري به، ولا لتباهي به، ولا لترائي به، ولا تتركه حياء عن طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بالجهل عنه ) أخرجه ابن أبي الدنيا ، عن أبي سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي ، حدثني أخي محمد بن المغيرة ، عن عبيد الله بن الحارث الجمحي ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: " لا يتعلم العلم لثلاث، ولا يترك لثلاث .." ، فذكره، ( وقال عيسى عليه السلام: من كثر كذبه ذهب جماله، ومن لاحى الرجال سقطت مروءته، ومن كثر همه سقم جسمه، ومن ساء خلقه عذب نفسه) أخرجه ابن أبي الدنيا ، عن القاسم بن هاشم ، حدثنا حماد بن مالك الدمشقي ، حدثنا عبد العزيز بن حصين قال: بلغني أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: فذكره، (وقيل لميمون بن مهران) الجزري العابد، الثقة، كاتب عمر بن عبد العزيز ، (ما لك لا يفارقك أخوك عن قلى؟ قال: لأني لا أشاريه ولا أماريه) ، والمشاراة: المخاصمة .

أخرجه ابن أبي الدنيا ، عن إبراهيم بن سعيد ، حدثنا موسى بن أيوب ، حدثنا عتاب بن بشير عن علي بن بذيمة قال: قيل لميمون بن مهران : ما لك لا يفارقك أخ لك عن قلى؟ فذكره، وأخرجه الطبراني من طريق أبي جعفر النفيلي ، وأبو نعيم في الحلية من طريق علي بن حجر ، كلاهما عن غياث بن بشير به، (وما ورد في ذم المراء والجدال كثير) ، فمن ذلك ما رواه كعب بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من طلب العلم ليجادل به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار" . رواه الترمذي وضعفه، وابن أبي الدنيا ، والطبراني ، وعن حريث بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجار أخاك، ولا تشاره، ولا تماره" . أخرجه ابن أبي الدنيا ، وقال مجاهد : لا تمار أخاك، ولا تفاكهه. يعني المزاح ، وقال لقمان لابنه: يا بني، لا تعلم العلم تباهي به العلماء، أو تماري به السفهاء، أو ترائي به في المجالس. وقال محمد بن واسع : رأيت صفوان بن محرز في المسجد، وقريبا منه ناس يتجادلون، فرأيته قام فنفض ثيابه، وقال: إنما أنتم حرب. وسمع الربيع بن خثيم رجلا يلاحي رجلا، فقال: مه، لا تلفظ إلا بخير، ولا تقل لأخيك إلا ما تحب أن تسمعه من غيرك؛ فإن العبد مسؤول عن لفظه، محصى عليه ذلك كله، أحصاه الله تعالى ، وقال إبراهيم بن مهاجر : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: إذا سمعت المراء فأقصر .




الخدمات العلمية