هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض ، فكل كلام سمعته ، فإن كان حقا فصدق به ، وإن كان باطلا أو كذبا ولم يكن متعلقا بأمور الدين فاسكت عنه . وحد المراء
والطعن في كلام الغير تارة يكون في لفظه ، بإظهار خلل فيه من جهة النحو أو من جهة اللغة أو من جهة العربية ، أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير ، وذلك يكون تارة من قصور المعرفة وتارة يكون بطغيان اللسان وكيفما كان فلا وجه لإظهار خلله .
وأما في المعنى فبأن يقول : ليس كما تقول ، وقد أخطأت فيه من وجه كذا وكذا .
وأما في قصده فمثل أن يقول : هذا الكلام حق ، ولكن ليس قصدك منه الحق وإنما ، أنت فيه صاحب غرض ، وما يجري مجراه وهذا الجنس إن جرى في مسألة علمية ربما خص باسم الجدل وهو أيضا مذموم ، بل الواجب السكوت أو السؤال في معرض الاستفادة ، لا على وجه العناد والنكارة ، أو التلطف في التعريف ، لا في معرض الطعن .
وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ، ونسبته إلى القصور والجهل فيه ، وآية ذلك أن يكون تنبيهه للحق من جهة أخرى مكروها عند المجادل يجب ، أن يكون هو المظهر له خطأ ؛ ليبين به فضل نفسه ، ونقص صاحبه ، ولا نجاة من هذا إلا بالسكوت عن كل ما لا يأثم به لو سكت عنه .
وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل والتهجم على الغير بإظهار نقصه ، وهما شهوتان باطنتان .
للنفس قويتان لها .
وأما ، إظهار الفضل فهو من قبل تزكية النفس ، وهي من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلو والكبرياء ، وهي من صفات الربوبية ، وأما تنقيض الآخر فهو من مقتضى طبع السبعية ، فإنه يقتضي أن يمزق غيره ويقصمه ويصدمه ويؤذيه ، وهاتان صفتان مذمومتان مهلكتان ، وإنما قوتهما المراء والجدال ، فالمواظب على المراء والجدال مقو لهذه الصفات المهلكة ، وهذا مجاوز حد الكراهة ، بل هو معصية ، مهما حصل فيه إيذاء الغير .
وحمل المعترض عليه على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حق أو باطل ، ويقدح في قائله بكل ما يتصور له ، فيثور الشجار بين المتماريين ، كما يثور الهراش بين الكلبين ، يقصد كل واحد منهما أن يعض صاحبه بما هو أعظم نكاية وأقوى في إفحامه وإلجامه . ولا ، تنفك المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب
، وأما فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله والسبعية الباعث له على تنقيص غيره ، كما سيأتي ذلك في كتاب ذم الكبر والعجب ، وكتاب ذم الغضب ، فإن علاج كل علة بإماطة سببها ، وسبب المراء والجدال ما ذكرناه ، ثم المواظبة عليه تجعله عادة وطبعا حتى يتمكن من النفس ويعسر الصبر عنه . علاجه
روي أن رحمة الله عليه قال أبا حنيفة لم آثرت الانزواء ؟ قال لأجاهد : نفسي بترك الجدال فقال : احضر المجالس واستمع ما يقال ، ولا تتكلم . قال : ففعلت ذلك ، فما رأيت مجاهدة أشد علي منها وهو كما قال ; لأن من سمع الخطأ من غيره ، وهو قادر على كشفه يعسر عليه الصبر عند ذلك جدا ولذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : لداود الطائي لشدة ذلك على النفس ، وأكثر ما يغلب ذلك في المذاهب والعقائد . " من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة "
فإن المراء طبع ، فإذا ظن أن له عليه ثوابا اشتد عليه حرصه وتعاون الطبع والشرع عليه ، وذلك خطأ محض ، بل ينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة ، وإذا رأى مبتدعا تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال ، فإن الجدال يخيل إليه أنها حيلة منه في التلبيس وأن ، ذلك صنعة يقدر المجادلون من أهل مذهبه على أمثالها لو أرادوا ، فتستمر البدعة في قلبه بالجدل ، وتتأكد ، فإذا عرف أن النصح لا ينفع اشتغل بنفسه وتركه ، وقال صلى الله عليه وسلم : وقال رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه هشام بن عروة كان عليه السلام يردد قوله هذا سبع مرات وكل من اعتاد المجادلة مدة وأثنى الناس عليه ووجد لنفسه بسببه عزا وقبولا قويت فيه هذه المهلكات ، ولا يستطيع عنها نزوعا إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر ، والرياء ، وحب الجاه ، والتعزز بالفضل ، وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها ، فكيف بمجموعها .