الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأصل السابع : العلم بأن الله تعالى منزه الذات عن الاختصاص بالجهات .

فإن الجهة إما فوق وإما أسفل وإما يمين وإما شمال أو قدام أو خلف وهذه الجهات هو الذي خلقها وأحدثها بواسطة خلق الإنسان إذ خلق له طرفين ، أحدهما يعتمد على الأرض ، ويسمى رجلا ، والآخر يقابله ، ويسمى رأسا .

فحدث اسم الفوق لما يلي جهة الرأس واسم السفل لما يلي جهة الرجل حتى إن النملة التي تدب منكسة تحت السقف ، تنقلب جهة الفوق في حقها تحتا وإن كان في حقنا فوقا .

وخلق للإنسان اليدين ، وإحداهما أقوى من الأخرى في الغالب ، فحدث اسم اليمين للأقوى واسم الشمال لما يقابله وتسمى الجهة التي تلي اليمين يمينا ، والأخرى شمالا ، وخلق له جانبين يبصر من أحدهما ويتحرك إليه ، فحدث اسم القدام للجهة التي يتقدم إليها بالحركة ، واسم الخلف لما يقابلها ؛ فالجهات حادثة بحدوث الإنسان ولو لم يخلق الإنسان بهذه الخلقة بل خلق مستديرا كالكرة ، لم يكن لهذه الجهات وجود ألبتة .

فكيف كان في الأزل مختصا بجهة والجهة حادثة وكيف ؟! صار مختصا بجهة بعد أن لم يكن له ؟! أبأن خلق العالم فوقه ويتعالى عن أن يكون له فوق ؟ إذ تعالى أن يكون له رأس ، والفوق عبارة عما يكون جهة الرأس ، أو خلق العالم تحته ، فتعالى عن أن يكون له تحت إذ تعالى عن أن يكون له رجل ، والتحت عبارة عما يلي جهة الرجل ، وكل ذلك مما يستحيل في العقل .

التالي السابق


(الأصل السابع: العلم بأن الله تعالى منزه الذات عن الاختصاص بالجهات) أي: ليست ذاته المقدسة في جهة من الجهات الست، ولا في مكان من الأمكنة (فإن الجهة) وهي منتهى الإشارة ومقصد المتحرك بحركته من حيث حصوله فهي من ذوات الأوضاع المادية، ومرجعها إلى نفس الأمكنة أو حدودها وأطرافها، وهي تنقسم بحسب المشير إلى ستة، وأشار إلى ذلك بقوله (إما فوق وإما أسفل) وهو التحت (وإما يمين أو شمال أو قدام أو خلف) وقد تنحصر في قسمين باعتبار وسط كرة العالم ومحويها، فما كان إلى نقطة مركز العالم ووسطه فهو سفل، وما كان إلى محيط ومحويه فهو جهة علو، وهذا لا يكاد يختلف، ومن ثم ادعى فيهما أنهما جهتان على الحقيقة، حقيقة وطبعا، كما قرر في محله .

(وهذه الجهات هو الذي خلقها وأحدثها بواسطة خلق الإنسان) أي: حادثة بإحداث الإنسان ونحوه مما يمشي على رجلين (إذ خلق له طرفين، أحدهما يعتمد على الأرض، ويسمى رجلا، والآخر يقابله، ويسمى رأسا، فحدث اسم الفوق لما يلي جهة الرأس) أي: معنى الفوق ما حاذى رأسه من جهة السماء (واسم الأسفل لما يلي جهة الأرض) مما يحاذي رجله (حتى إن النملة التي تدب منكسة تحت السقف، تنقلب جهة الفوق في حقها تحتا) لأنه المحاذي لظهرها (وإن كان في حقنا فوقا) أي: معنى الفوق فيما يمشي على أربع أو على بطنه بالنسبة إليهما ما يحاذي ظهره من فوقه، فهي كلها إضافية .

(وخلق للإنسان اليدين، وإحداهما أقوى من الأخرى في الغالب، فحدث اسم اليمين للأقوى) أي: اليمين ما يحاذي أقوى يديه غالبا (والشمال لما يقابله) وإنما قيده بالغالب؛ فإن في الناس من يساره أقوى من اليمين ولكنه نادر (وتسمى الجهة التي تلي اليمين يمينا، والأخرى شمالا، وخلق له جانبين يبصر من أحدهما ويتحرك إليه، فحدث له اسم القدام) ويسمى الأمام أيضا، وهو ما يحاذي جهة الصدر (للجهة التي) يبصر منها و (يتقدم إليها بالحركة، واسم الخلف) وكذلك الوراء (لما يقابلها؛ فالجهات) على ما ذكر (حادثة بحدوث الإنسان) فقبل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت؛ إذ لم يكن ثم حيوان، فلم يكن ثم رأس ولا رجل ولا ظهر، وهي مع ذلك اعتبارية لا حقيقية تتبدل .

(ولو لم يخلق الإنسان بهذه الخلقة) المعروفة، وكذا كل حادث (بل خلق مستديرا كالكرة، لم يكن لهذه الجهات وجود ألبتة) أي: لم توجد واحدة من هذه، إذ لا رأس ولا رجل ولا يمين ولا شمال ولا ظهر ولا [ ص: 104 ] وجه (فكيف كان) تعالى (في الأزل مختصا بجهة والجهة حادثة؟!) وهو تعالى كان موجودا في الأزل، ولم يكن شيء من الموجودات; لأن كل موجود سواه حادث (أو كيف صار بجهة بعد أن لم يكن له؟! أبأن خلق الإنسان تحته ويتعالى عن أن يكون فوق؟ إذ تعالى أن يكون له رأس، والفوق عبارة عما يلي جهة الرأس، أو خلق العالم تحته، فتعالى أن يكون له رجل، والتحت عبارة عما يلي جهة الرجل، وكل ذلك مما يستحيل في العقل) فهذا طريق الاستدلال، قال أبو منصور التميمي: وأما إحالة كونه في جهة فإن ذلك كإحالة كونه في مكان; لأن ذلك يوجب حدوث كون ومحاذاة مخصوصة فيه، وذلك دليل على حدوث ما حل فيه؛ فلذلك أحلنا إطلاق اسم الجهة على الله تعالى. اهـ .




الخدمات العلمية