الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأصل العاشر :

العلم بأن الله عز وجل واحد لا شريك له فرد لا ند له انفرد بالخلق والإبداع واستبد ، بالإيجاد والاختراع لا مثل له يساهمه ويساويه ولا ضد له فينازعه ويناويه .

التالي السابق


(الأصل العاشر: العلم بأن الله -عز وجل- واحد) إن قلت: لم أخر المصنف التوحيد، مع أنه المقصود الأهم الذي دعا إليه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؟ قلت: لما كان التوحيد، وهو اعتقاد الوحدانية في الذات والصفات والأفعال، وكان ما تقدم من الوجود والقدم وسائر ما عقد عليه الأصول السابقة أوصافا للباري سبحانه، كل منها من متعلقات التوحيد، اقتضى ذلك تقديمها ليعلم ما توحدت به ذاته تعالى من سائر الذوات من الأزلية والأبدية والتعالي عن الجسمية والجوهرية والعرضية، فإن قلت: فلم لم يقدم التوحيد على الكلام في الاستواء والرؤية؟ قلت: لأن الكلام في ذلك تتمة للكلام على نفي الجسمية ونحوها .

واعلم أن الوحدة تكلف بمعنى انتفاء قبول الانقسام، وبمعنى انتفاء الشبيه، والباري تعالى واحد بكل من المعنيين أيضا، أما الأول فلتعاليه عن الوصف بالكمية والتركب من الأجزاء والحد والمقدار، وأما الثاني فحاصله انتفاء المشابه له تعالى بسائر الوجوه، حتى يستحيل أن يوجد واجبات فأكثر، وهذه الاستحالة هي التي اعتمد عليها هذا الأصل؛ لإثباتها بالدليل .

وقوله (لا شريك له) الشريك: "فعيل" من الشركة، وهو كون الشيء بحيث يتحد مع غيره في شيء، موضوعا كان أو محمولا، صفة أو موصوفا، متعلقا أو أثرا، ثم أكده بقوله (فرد) أي: منفرد بصفات الجلال وصفات الإكرام (لا ند له) أي: لا شبيه له، ثم إن الوحدانية هي الصفة الخامسة من الصفات السلبية، كما أشرنا إليه [ ص: 126 ] أولا، وهي عبارة عن سلب التعدد في الذات والصفات والأفعال، فوحدانية الذات تنفي التعدد المتصل بأن يكون ذاتا مركبة من جواهر وأعراض، والتعدد المنفصل بأن تكون ذات تماثل ذاته، ووحدانية الصفات تنفي التعدد المتصل بأن تكون له قدرتان وإرادتان وعلمان فأكثر، إلى آخرها، والتعدد المنفصل بأن تكون صفة في ذات تماثل صفاته الأزلية، ووحدانية الأفعال تنفي أن يكون فعل أو اختراع أو إيجاد لغيره تعالى من الممكنات، وإليه أشار بقوله: (انفرد بالخلق والإبداع، واستبد) أي: استقل (بالإيجاد والاختراع) ، وقد تقدم أن الاختراع خاص بالله -عز وجل-، والفعل يطلق على القديم والحادث، إلا أنه في حق الله تعالى حقيقة; لأنه هو الذي اخترعه، وأما في حق الحادث فمجاز، وإنما هو عبارة عن مباشرتهم للأشياء وتحريكهم لها، والإيجاد والخلق أيضا خاصان بالله تعالى (لا مثل له يشابهه ويساويه) المثل: هو ما يسد مسد الشيء، وقد يقال للذي يشاركه في الصفات النفسية، وقد يقال: هو الذي يشارك الشيء فيما يجب ويجوز ويستحيل (ولا ضد له) في ملكه (فينازعه ويناويه) أي: يعارضه، والمناواة والمنازعة يكونان على سبيل المعاندة، والمعاندة هي كون الشيء بحيث يستلزم كل منهما نقيض لازم الآخر، وقد يقال: إنه يفهم من سياق المصنف أن الوحدانية عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: نفي الكثرة في ذاته، ونفي النظير في ذاته وصفاته، وانفراده بالخلق والاختراع .

وفي عبارة بعض المتأخرين الوحدانية عدم الاثنينية في الذات العلية والصفات والأفعال، وإن شئت قلت: هو نفي الكمية المتصلة والمنفصلة، ونفي الشريك في الأفعال عموما، فجعل الأفعال مندرجة تحت العدم، وجعل نفي الشريك في الأفعال عموما معطوفا على نفي الكمية المتصلة والمنفصلة، فاقتضى أنه ليس منهما، فليتأمل .

وإذا جعلنا الوحدانية مجموع تلك الأمور، لا أن كل واحد منهما تتحقق به الوحدانية، فيقال: إن اشتمال الوحدانية على تلك الثلاثة لا يصح أن يكون من اشتمال الكل على أجزائه، ولا الكلي على جزئياته، أما الأول فهو مناف لقول بعض المتأخرين بأن الوحدانية عدم الاثنينية، فجعلها شيئا واحدا، وهو العدم المضاف إلى تلك الأمور، فتلك الأمور ليست بأجزاء لها، وأما الثاني فظاهر لعدم وجود ضابط تقسيم الكلي إلى جزئياته من صدق اسم المقسم على كل من الأقسام؛ فلا يصح هنا أن يقال: نفي الكثرة عن الذات وحدانية.. إلخ. أشار لذلك الشهاب الغنيمي في حاشية أم البراهين .



(فصل)

قال السنوسي في "شرح الكبرى" ما حاصله: إن عقود التوحيد على ثلاثة أقسام:

الأول: ما لا يثبت إلا بالدليل العقلي، وهو كل ما يتوقف ثبوت المعجزة عليه، كوجوده تعالى وقدمه وبقائه وعمله وقدرته وإراداته وحياته؛ إذ لو استدل بالسمع على هذه العقود لزم الدور .

الثاني: ما لا يثبت إلا بالسمع، وهو كل ما يرجع إلى وقوع جائز، كالبعث وسؤال الملكين والصراط والميزان والثواب والعقاب ورؤيته سبحانه.. وغير ذلك; لأن غاية ما يدرك العقل من هذه الأمور جوازها، أما وقوعها فلا طريق له إلا السمع .

الثالث: ما يثبت بالأمرين بحيث يستقل كل منهما بالدلالة، وهو ما ليس بوقوع جائز، لا يتوقع ثبوت المعجزة عليه كالسمع والبصر والكلام، وكجواز الأمور التي أخبر الشرع بوقوعها، وكحدوث العالم .

وقد اختلف في معرفة الوحدانية، واختلف في صحة الاستناد فيها إلى السمع وحده، فقيل: نعم، وقيل: لا، والأول رأي إمام الحرمين والفخر الرازي، والثاني رأي بعض المحققين، وإليه مال شرف الدين ابن التلمساني، وهو الذي اخترت في هذه العقيدة. اهـ .

قال الغنيمي: فأنت ترى الشيخ قد مال إلى عدم صحة الاستناد إلى السمع وحده في معرفة الوحدانية، لكن ينبغي أن يتيقظ أن هذا الخلاف هل هو جار في وحدة الذات وفي وحدة الصفات وفي وحدة الأفعال، أو هو خاص ببعضها؟ يحتاج إلى تأمل .

وقال الجلال الدواني: اعلم أن التوحيد إما بحصر وجوب الوجود، أو بحصر الخالقية، أو بحصر المعبودية، قال: ولقد مرت الإشارة إلى دليله في نفي المثل، وقد يستدل عليه بأنه لو تعدد [ ص: 127 ] الواجب لكان مجموعهما ممكنا؛ لاحتياجه إلى كل واحد منهما، فلا بد له من علة فاعلية مستقلة، وتلك العلقة لا تكون نفس المجموع، ولا أحدهما ولا غيرهما، أما الأول فلاستحالة كون الشيء فاعلا لنفسه، وأما الثاني والثالث فلامتناع كون الواجب معلولا لغيره، فتأمل .

والثاني أشير إليه في الآية، وقد قيل: إنه دليل إقناعي لجواز أن يتفقا، فلا يلزم الفساد، والثالث وهو حصر المعبودية، وهو ألا يشرك بعبادة ربه أحدا، فقد دل عليه الدلائل السمعية، وانعقد عليه إجماع الأنبياء -عليهم السلام- وكلهم دعوا المكلفين أولا إلى هذا التوحيد، ونهوهم عن الإشراك بالله في العبادة، قال الله تعالى: أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون . اهـ .

وبه تعلم تفصيل ما أجمل في كلام الشيخ السنوسي آنفا في اعتماده على ما مال إليه ابن التلمساني.



(فصل)

وقعت لهم عبارات في تفسير التوحيد، ففي "شرح الكبرى" للسنوسي نقلا عن ابن التلمساني: التوحيد اعتقاد الوحدة لله تعالى، والإقرار بها، وفي "شرح الوسطى": حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشركة في الألوهية وخواصها، وفي بعض حواشي "شرح العقائد النسفية" مثل ذلك، زاد: وأراد بالألوهية وجوب الوجود والقدم الذي أوتي بمعنى عدم المسبوقية بالغير وبخواصها، مثل تدبير العالم وخلق الأجسام واستحقاق العبادة والقدم الزماني والقيام بنفسه .

وقال بعض المحققين: حقيقته إثبات ذات غير مشبهة للذوات، ولا معطلة عن الصفات، فليس كذاته ذات، ولا كصفته صفة، وقال ذو النون: حقيقة التوحيد أن تعلم أن قدرة الله تعالى في الأشياء بلا علاج، وصنعه بلا مزاج، وعلة كل شيء صنعه، ولا علة لصنعه، وقال بعضهم: من ترك أربعا كمل توحيده، وهي: كيف، ومتى، وأين، وكم، فالأول سؤال عن الكيفية، وجوابه: ليس كمثله شيء ، والثاني سؤال عن الزمان، وجوابه: ليس يتقيد بزمان، والثالث سؤال عن المكان، وجوابه: ليس يتقيد بمكان، والرابع سؤال عن العدد، وجوابه: هو الواحد الأحد .




الخدمات العلمية