الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقول القائل : عالم بلا علم ، كقوله : غني بلا مال وعلم بلا عالم وعالم ، بلا معلوم ، فإن العلم والمعلوم والعالم متلازمة ، كالقتل والمقتول والقاتل ، وكما لا يتصور قاتل بلا قتل ولا قتيل ، ولا يتصور قتيل بلا قاتل ولا قتل كذلك ، لا يتصور عالم بلا علم ولا علم بلا معلوم ، ولا معلوم بلا عالم ، بل هذه الثلاثة متلازمة في العقل ، لا ينفك بعض منها عن البعض ، فمن جوز انفكاك العالم عن العلم فليجوز انفكاكه عن المعلوم ، وانفكاك العلم عن العالم ; إذ لا فرق بين هذه الأوصاف .

التالي السابق


ثم شرع المصنف في الرد على المعتزلة، فقال: (وقول القائل: عالم بلا علم، كقوله: غني بلا مال) ، أي: إنما أثبتنا الصفات زائدة على مفهوم الذات; لأنه تعالى أطلق على نفسه هذه الأسماء في كتابه، على لسان نبيه، خطابا لمن هو من أهل اللغة، والمفهوم في اللغة من عليم ذات لها علم، ومن قدير ذات لها قدرة، وكذا سائر الأوصاف المشتقة تدل على ذات ووصف ثابت لتلك الذات، بل يستحيل عند أهل اللغة عليم بلا علم; لاستحالة علم بلا معلوم، أو لاستحالة عليم بلا معلوم، وإليه أشار المصنف بقوله: (وعالم بلا علم، وعالم بلا معلوم، فإن العلم والمعلوم والعالم متلازمة، كالقتل والمقتول والقاتل، وكما لا يتصور قاتل بلا قتل ولا قتيل، ولا يتصور قتيل بلا قاتل ولا قتل، فكذلك لا يتصور عالم بلا علم ولا) يتصور أيضا (علم بلا معلوم، ولا) أيضا (معلوم بلا عالم، بل هذه الثلاثة متلازمة في العقل، لا ينفك بعض منها عن البعض، فمن جوز انفكاك العالم عن العلم فليجوز انفكاكه عن المعلوم، وانفكاك العلم عن العالم; إذ لا فرق بين هذه الأوصاف) ، أي: لا يجوز صرفه عن معناه لغة إلا لقاطع عقلي يوجب نفي معناه لغة، ولم يوجد في إيجاب نفي المعنى اللغوي ما يصلح شبهه، فضلا عن وجود دليل .

واعلم أنا معشر أهل السنة - وإن أثبتنا الصفات زائدة على مفهوم الذات- فلا نقول: إنها غير الذات. كما لا نقول: إنها عين الذات; لأن الغيرين هما المفهومان اللذان ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود، بحيث يتصور وجود أحدهما مع عدم الآخر، وكل من الذات المقدسة وصفاتها لا يتصور انفكاك أحدهما عن الآخر .



(تنبيه)

قد تباعدت المعتزلة في نفي صفات الباري على أن الواحد منا عالم بعلم، وقادر بقدرة، وحي بحياة.. إلى آخرها، ولا ينبغي للباري أن يشارك صفات المخلوقين، وقد ألزمهم الأشعرية قياس الغائب على الشاهد، ويعنون بالشاهد ما علم، وبالغائب ما جهل، وقد يعنون بالشاهد أحكام الحوادث، وبالغائب أحكام الباري جل وعز، والجمع بين الغائب والشاهد لا يصح إلا بجامع، وحيث جمع الحشوية بين الشاهد والغائب بغير جامع أداهم ذلك إلى التشبيه، حيث قالوا: ما عهدنا موجودا ولا عقلناه إلا في جهة، والباري موجود، فيكون في جهة، وحيث قالوا: ما وجدنا متكلما إلا بحرف وصوت، والباري تعالى متكلم، فيكون متكلما بحرف وصوت. فجمعوا بين الشاهد والغائب بغير جامع، فشبهوا .

وكذلك الفلاسفة لما قاسوا ما لم يشاهدوه على ما شاهدوه بغير جامع عطلوا، وقالوا: ما رأينا زرعا إلا من بذر، ولا بذرا إلا من زرع. فأداهم ذلك إلى تعطيل الصنع عن الصانع، وإذا كان لا بد من جامع [ ص: 155 ] -والجوامع أربعة: الجمع بالحقيقة، كقولك: حقيقة الإنسان الحيوان الناطق، وهذا حيوان ناطق; فيكون إنسانا. الثاني: الجمع بالعلة، كقولك: التحرك يستدعي حركة، وهذا متحرك; فقد قامت به حركة. الثالث: الجمع بالدليل، كقولك: وجود الحادث يدل على وجود المحدث، والعالم حادث، فيدل على وجود المحدث له. الرابع: الجمع بالشرط، كقولك: وجود العلم مشروط بالحياة، وهذا عالم، فيكون حيا .

ووجه حصر الجوامع في هذه الأربعة أن كل جامع بين متفق عليه، ومختلف فيه، لا يخلو إما أن يذكر في جمعه أمرا واحدا أو أكثر، فإن ذكر في جمعه أمرا واحدا فهو الجمع بالحقيقة، وإن كان أكثر فلا يخلو إما أن يكون بينهما ارتباط، أو لا، فإن لم يكن بينهما ارتباط فلا دلالة لأحدهما على الآخر، وإن كان بينهما ارتباط فإما أن يكون من الطرفين، أو من أحدهما، فإن كان من الطرفين بحيث يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، ومن نفيه نفيه، فهو الجمع بالعلة، وإن كان من أحدهما فإن كان من طرف الثبوت فهو الدليل والمدلول; فإنه يلزم من وجود الصنع وجود الصانع، ولا يلزم من عدم الصنع عدم الصانع; فالدليل إذا لا يلزم عكسه، وإن كان اللازم من طرق النفي فهو الشرط والمشروط، فإن انتفاء الحياة يدل على انتفاء العلم، ولا يلزم من ثبوت الحياة ثبوت العلم .

فإذا تقرر هذا فقد جمع الأشعرية في مسألة الصفات بالطرق الأربعة، فقالوا في الجمع بالحقيقة: لا معنى للعلم إلا من له العلم، أو ذو العلم، والباري تعالى عالم، فله علم. وطردوا ذلك في سائر الصفات، وقالوا في الجمع بالعلة العالمية في الشاهد: معللة بوجود العلم، وقد سلمتم ثبوت العالمية للباري; فيلزم اتصافه بالعلم; لما بين العلة والمعلول من التلازم، ولو صح وجود المعلول بدون علة لجاز وجود العلة بدون معلولها، وقد أجمعنا على أن ذلك محال .

وقالوا في الجمع بالدليل: إن الإحكام والإتقان في الشاهد يدل على ثبوت العلم للفاعل، وقد وجد في أفعال الباري، فدل على ثبوت العلم لله تعالى .

وقالوا في الجمع بالشرط: كل فاعل بالاختيار، فله علم بما يقصد إلى إيقاعه، والباري تعالى فاعل بالاختيار، فله علم .

قالت المعتزلة: شرط الجمع بين الشاهد والغائب مساواة الحكمين والعلم الذي تدعونه غائبا يخالف العلم شاهدا; فإن العلم في الشاهد حادث، ولا يتعلق بمعلومين، وفي الغائب قديم واحد يتعلق بما لا نهاية له، وإذا اختلفا في الحقيقة لم يصح قياس أحدهما على الآخر .

وأجاب الأشعرية بأن الجمع بينهما من جهة عامة، وهي العلمية والعالمية ، قالوا: ولو منع ذلك من اعتبار أحدهما بالآخر، لمنع الجمع بينهما في الشرط، وقد أثبتم أن الباري تعالى حي لأنه عالم; قياسا على الشاهد، قالوا: إذا عللنا هذه الصفات في الشاهد لجوازها، والجائز مفتقر في وجوده إلى مقتض، وصفات الباري تعالى واجبة، والواجب يستغني بنفسه عن المقتضى، ولهذا لما كان وجود الجواهر والأعراض من الممكنات، افتقرت إلى المؤثر، ولما كان وجوده تعالى واجبا استغنى عن المؤثر .

وأجاب الأشعرية بـ: إنا لا نعني بالتعليل التأثير والإقادة ليلزم ما ذكرتم، وإنما نعني به ترتب أحد الأمرين على الآخر، وتلازمهما نفيا وإثباتا; فيستدل بثبوت أحدهما على ثبوت الآخر، ونفيه على نفيه، وإذا صح منكم إثبات الشرط باللزوم على أحد الطرفين، فلأن يلزم الجمع باللزوم من الطرفين بطريق الأولى، والله أعلم .



استطراد

ذكر النسفي في الاعتماد أن المماثلة عند الفلاسفة والباطنية تثبت بالاشتراك في مجرد التسمية، فلا يوصف الباري عندهم بكونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا على الحقيقة; لاتصاف الخلق بها، وهو باطل; لأنها لو ثبتت به لتماثلت المتضادات; إذ السواد والبياض يشتركان في اللونية والعرضية والحدوث، وعند المعتزلة تثبت المماثلة بالاشتراك في أخص الأوصاف; إذ لا مماثلة بين السواد والبياض، مع اشتراكهما في اللونية والعرضية والحدوث، لا أنها أوصاف عامة، فلما جاء الاشتراك في السوادين ثبتت المماثلة; لأنه أخص الأوصاف; وهذا لأن المماثلة إنما تقع بما تقع به المخالفة، والسواد يخالف البياض لكونه سوادا، لا لكونه لونا وعرضا وحدثا دل أنه إنما يماثل السواد لكونه سوادا، فلو كان الباري متصفا بالعلم لثبت التماثل; إذ العلم يماثل العلم لكونه علما، لا لكونه كذا; [ ص: 156 ] فكذا هذا، وهو فاسد; لأن المحدث يخالف القديم بصفة الحدوث، وينبغي أن تثبت المماثلة بين كل مشتركين في صفة الحدوث، فتكون المتضادات كلها متماثلة; لاشتراكها في صفة الحدوث; ولأن القدرة على حمل من تساوي القدرة التي يحمل بها غيره مئة من في أخص أوصافها، ولا تماثلها، وعندنا هي تثبت بالاشتراك في جميع الأوصاف، حتى لو اختلفا في وصف لا تثبت المماثلة; لأن المثلين اللذين يسد أحدهما مسد الآخر وينوب منابه إن كان من جميع الوجوه كانا مثلين من جميع الوجوه، وإن كان من بعض الوجوه فهما متماثلان من ذلك الوجه، ولكن إذا استويا من ذلك الوجه، إذ لو كان بينهما تفاوت في ذلك الوجه، لما ناب أحدهما مناب صاحبه، ولا سد مسده .

فالحاصل أنه يجوز أن يكون الشيء مماثلا للشيء من وجه، مخالفا من وجه، فإن أحدا من أهل اللغة لا يمتنع من القول بأن زيدا مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده، وإن كانت بينهما مخالفة بوجوه كثيرة، ولو اشتركا في الفقه والكلام، ولكن لا ينوب أحدهما مناب صاحبه ولا يسد مسده، يمتنع من أن يقول: إنه مثل له في كذا. تحقيقه أن المماثلة جنس يشتمل على أنواعه، وهي المشابهة والمضاهاة والمشاكلة والمساواة، وإطلاق اسم الجنس على كل نوع من أنواعه جائز; فإن الآدمي يقال له: حيوان. وكذا الفرس وغيره، ثم قد يختص شيئان بثبوت المساواة بينهما، وهي الاشتراك في القدر مع عدم المشاكلة والمضاهاة والمشابهة، وكذا كل نوع من سائر أنواعه، وعند عدم الأنواع الأخر تثبت المخالفة من ذلك الوجه، ومع ذلك لا يمتنع أهل اللغة من إطلاق لفظ المماثلة لثبوت ما ثبت من هذه الأنواع، مع أن علمنا عرض محدث، جائز الوجود ومستحيل البقاء، غير شامل على المعلومات أجمع، وهو ضروري أو استدلالي، وعلمه تعالى أزلي واجب الوجود، شامل على المعلومات أجمع، ليس بعرض، ولا مستحيل البقاء، ولا ضروري، ولا استدلالي، وكذا حياتنا وقدرتنا وسائر الصفات، فإذا لا مماثلة بين علمه تعالى، وعلم الخلق، وكذا في سائر الصفات، ولأن القول بعالم لا علم له، وقادر لا قدرة له، كالقول بمتحرك لا حركة له، وأسود لا سواد، وهو تناقض ظاهر .

فإن قيل: هذه الصفات لو كانت ثابتة لكانت باقية، ولو كانت باقية فإما أن تكون باقية بلا بقاء، أو ببقاء، فإن كانت باقية ببقاء ففيه قيام الصفة بالصفة، وقد أنكرتم علينا مسألة بقاء الأعراض، وادعيتم استحالته، وإن كانت باقية بلا بقاء، فلم لا يجوز أن تكون الذات قادرا بلا قدرة، عالما بلا علم؟ قلنا: صفة من هذه الصفات باقية ببقاء هو نفس تلك الصفة، فيكون علمه علم الذات بقاء لنفسه، فتكون الذات بالعلم عالما، والعلم بنفسه باقيا، وكذلك بقاء الله تعالى بقاء له وبقاء لنفسه أيضا، فيكون الله تعالى به باقيا، وهو بنفسه أيضا باق، ولا يقال: إن البقاء إذا جعل بقاء للذات يستحيل أن يكون بقاء لنفسه; لأنه يؤدي إلى القول بحصول الباقيين ببقاء واحد، وهو محال، كحصول أسودين بسواد واحد; لأنا نقول بأن حصول باقيين ببقاء واحد إنما يستحيل إذا لم يكن أحد الباقيين بقاء لنفسه، ثم يقوم بالباقي الآخر، كان كل منهما باقيا، ولم يستحل ذلك .

فإن قيل: لو كانت له هذه الصفات لكانت أزلية; إذ القول بحدوث الصفات للقديم محال، ولكانت أغيارا للذات، والقول بوجود الأغيار في الأزل مناف للتوحيد; قلنا: الصفات ليست بأغيار للذات; لأن أحد الغيرين هما اللذان يمكن وجود أحدهما بدون الآخر، فلم يوجد للمغايرة ضرورة، وهذا لأن ذات الله تعالى لا تتصور بدون علمه، وكذا علمه لا يتصور بدون ذاته; لما أن ذاته أزلي، وكذا صفاته، والعدم على الأزلي محال، وهذا كالواحد الذي من العشرة لا يكون عين العشرة، ولا غير العشرة; لاستحالة بقاء الواحد الذي من العشرة بدون العشرة، أو بقائها بدونه; إذ هو منها، فعدمها عدمه، ووجودها وجوده، واعترضوا على حد الغيرين بأن التغاير بين الجواهر والأعراض ثابت، ولا يتصور وجود أحدهما مع عدم الآخر; لاستحالة خلو الجواهر من الأعراض، واستحالة وجود الأعراض بدون الجواهر، والجواب أن كل جوهر معين لا يستحيل وجوده مع عدم عرض معين، بل العرض يعدم لاستحالة بقائه، ويبقى الجوهر، وكان كل جوهر في نفسه غير كل عرض لوجوده الجزء، [ ص: 157 ] وما قالوا: لو كانت لله صفات لكانت قديمات .

والقول بالقدماء محال; لأن القديم هو الله تعالى، والقول بالقدماء قول بالآلهة; لأنا نقول: بلى، إذا كان قديم من القدماء قائما بذاته، موصوفا بصفات الألوهية، ونحن لا نقول به، بل نقول: إن الله تعالى قديم بصفاته، والقديم القائم بالذات واحد، وله صفات الكمال، وكل صفة قائمة بذات الله تعالى، وهي قديمة، بمعنى أن ليس لوجودها ابتداء; فيكون وصفا قديما، والله أعلم .



(تكميل)

به يحسن ختم الباب: اعلم أن المعاني والصفات الكمالية تارة تؤخذ من حيث إضافتها إلى الحق، وتارة من حيث إضافتها للمخلوق، ومن المعلوم أن الشيء يتغاير بتغاير المضاف إليه، لكن تغاير الإضافة ليس بتغاير حقيقي، إلا أنه كما ثبت أن لا مشاركة على الحقيقة بين الممكن والواجب، فلا بد أن تكون المغايرة على الحقيقة، ويكون ما ثبت للواجب من ذلك غير ثابت للممكن على الحقيقة، وليس بالتحقيق المشاركة إلا في الأسماء، وليس ثم اتحاد، لا بالنوع، ولا بالجنس، وإلا لزم تركيب الواجب، أو اتحاد الملزومات مع تناهي اللوازم، وذلك محال .

فإذا علم الله وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وحياته وكلامه، وكذا جميع صفاته، لا تشترك مع صفات الخلق إلا في الأسماء فقط، ولا مشاركة في الحقيقة، لا من حيث الشخص، ولا من حيث النوع، ولا من حيث الجنس، ثم إن هذه الأسماء المشتركة التي أطلقت تارة على ما للحق من الصفات، وتارة على ما للحادثات من ذلك، قد تردد النظر: هل ذلك الإطلاق بالاشتراك المعنوي أو اللفظي أو بالتشابه؟ أعني الحقيقة والمجاز، ثم اشتهر ذلك حتى تنوسيت العلاقة، وعلى الثالث فهل الأصل الحقيقي فيها للمعنى القديم أو المعنى الحادث؟ أما المتكلمون - وخصوصا القائلين بالأحوال- فقد ذهبوا إلى الاشتراك المعنوي، ولذلك تراهم يعترضون على من حد العلم مثلا بحد لا يجمع القديم والحادث، كما في الإرشاد ومسألة وقوع الاشتراك في أصول ابن الحاجب توضح لك ذلك، ولكن ذلك عندهم إنما هو في غير صفات المعاني التي أثبتها السمع، وإنما الكلام الآن في معنى الوجود على القول بزيادته، والحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وما أشبه ذلك، فهذه الألفاظ إذا أطلقت على القديم والحادث فهي عندهم مشتركة بالاشتراك المعنوي، وليس أحد المعنيين أصلا للآخر، بل كل منهما أصل، واستعمال اللفظ فيهما حقيقة، على طريقة استعمال المتواطئ في آحاد مصدوقاته، ولكن دعوى الاشتراك المعنوي قد بان بما ذكرناه بطلانه، فلم يبق إلا الاشتراك اللفظي، وهو احتمال راجح، كما قرر في الأصول; فإطلاق لفظ العلم، وكذا غيره من بقية الصفات على المعنى القديم حقيقة، وحيث أطلقت على المعانى الحادثة إنما هو بالشبه، لكن يحصل الاعتبار; فهذا أصل عظيم يشرف بك على كيفية استعمال الألفاظ في المعاني القديمة والحادثة; حتى لا يقف بك الوهم مع المعاني الحادثة عندما تسمع استعمال اللفظ في معنى قديم، وقد اشتهر عندك استعماله في الحادثة; حتى تعتقد في الواجب ما لا يليق بجلاله، أو يثبت له لازم ذهني لذلك المعنى الحادث أصلا، وذلك المعنى اللازم الثابت في القديم فرعا; فيكون إطلاق اللفظ في الحادث حقيقة، وفي ذلك الفرع اللازم مجازا، وهذا وإن كان صحيحا في الجملة، لكن فيه عكس الحقائق، بل إذا سمعته وقد ثبت عندك تنزيه الواجب عن النقائص والحوادث -ولا بد أن يثبت عندك; إذ هو أصل دينك- وعرفت أن ذلك اللفظ حيث أطلق على المعنى الإلهي، واستعمل فيه، فقد استعمل في معناه الأصلي، فخذ ذلك المعنى مجردا عن جميع اللواحق المادية والأحوال الخلقية، بحيث يكون ذلك المعنى إلهيا، فإن ظفرت بعبارة محصلة يمكنك الإفصاح بها عن ذلك المعنى المجرد الإلهي، فذلك، وإلا فسلم الأمر للعالم به، واعتقد أن ذلك المعنى الذي لا يمكنك التعبير عنه هو الأصل للموضوع له ذلك اللفظ، فاعرف ذلك، والله أعلم .




الخدمات العلمية