الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفي قوله تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير أمر العباد بالتحرز في أقوالهم وأفعالهم وإسرارهم وإضمارهم لعلمه بموارد أفعالهم .

واستدل على العلم بالخلق وكيف لا يكون خالقا لفعل العبد وقدرته تامة لا قصور فيها وهي متعلقة بحركة أبدان العباد ، والحركات متماثلة ، وتعلق القدرة بها لذاتها ؟ فما الذي يقصر تعلقها عن بعض الحركات دون البعض مع تماثلها ؟ أو كيف يكون الحيوان مستبدا بالاختراع ويصدر من العنكبوت والنحل وسائر الحيوانات من لطائف الصناعات ما يتحير فيه عقول ذوي الألباب ؟ فكيف انفردت هي باختراعها دون رب الأرباب ، وهي غير عالمة بتفصيل ما يصدر منها من الاكتساب ؟ هيهات هيهات ، ذلت المخلوقات ، وتفرد بالملك والملكوت جبار الأرض والسماوات .

التالي السابق


ثم قال المصنف: (وفي قوله) تعالى: ( وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ) أي: بالضمائر، قبل أن يعبر عنها سرا أو جهرا، ( ألا يعلم من خلق ) ، ألا يعلم السر والجهر من أوجد الأشياء حسبما قدرته و حكمته ( وهو اللطيف الخبير ) ، المتوصل عمله إلى ما ظهر من خلقه وما بطن، ووجه الدلالة فيها أنه (أمر العباد بالتحرز في أقوالهم وإسرارهم وأضمارهم) بفتح الهمزة، جمع ضمير، كشريف وأشراف، وإنما اختاره على الضمائر ليكون مع ما قبله نسقا واحدا; (لعلمه بموارد أفعالهم) كلها، (واستدل على العلم بالخلق) في قوله: ألا يعلم من خلق ، فظهر أنها خرجت مخرج التمدح والثناء، ومن السنة الصحيحة ما يصح أن يكون دليلا على هذا المطلب، في الصحيحين حديث الإيمان الطويل، وفيه: "وأن تؤمن بالقدر، خيره وشره، حلوه ومره"، وفي صحيح مسلم: "ولا تقل في شيء أصابك: لو كان كذا; فإن "لو" تفتح باب الشيطان، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل"، وفي حديث جابر أن "القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء"، وأشار إلى السبابة والوسطى يحركها، وهذا هو متمسك المحدث، وأما الصوفي فيقول: إذا قيل بم عرفت الله ؟فيقول بنقض العزائم، ويقول: كيف يكون لغير الله فعل وهو معه بعموم التكوين، وما يبدو فيه من التحريك والتسكين، وهو معكم أينما كنتم، أي: تكون كونكم الشامل لذواتكم وأعراضكم وأفعالكم من حركاتكم وسكناتكم: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، وأما الدليل العقلي فهو أنه لو كان فعل العبد واقعا بقدرته لكان عالما به ضرورة أنه مختار، والاختيار فرع العلم، والتالي باطل; لما يجده كل عاقل من عدم علمه حالة قطعه لمسافة معينة بالأجزاء والأحيان والحركات التي بين المبدأ والمنتهى، وكذا الأناة التي يتألف منها، وكذا حالة نطقه بالحروف، يجد كل عاقل من نفسه عدم العلم بالأعضاء التي هي آلتها والمحال التي فيها مواقعها، وعدم العلم بهيئاتها وأوضاعها، وكل ذلك ظاهر، وأيضا فلو كان فعل العبد بقدرته لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد، وهو محال; لما يلزم عليه من اجتماع النقيضين، وهو الاستغناء وعدم الاستغناء، أما الملازمة فلأن فعل العبد ممكن، وكل ممكن واقع بقدرة الله تعالى ضرورة أن الإمكان هو المحوج للسبب المعين; لأن غير المعين لا تحقق له، والإمكان معقول واحد في جميع الممكنات، فيلزم افتقار جميع الممكنات إلى ذلك السبب المعين، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، ولا جائز أن يكون ذلك السبب ممكنا، وإلا لزم التسلسل; فيكون واجب الوجود هو صانع العالم، فيكون جميع الممكنات واقعة بقدرته، فلو كان فعل العبد واقعا بقدرته لزم المحال المذكور، وهو المطلوب، وأيضا لو جاز أن يكون فعل العبد واقعا بقدرته لجاز أن يكون الجواهر وسائر الأعراض بقدرته، والتالي باطل بالاتفاق; فالمقدم مثله، أما الملازمة فلأن المحوج لفعل العبد إلى سببه هو الإمكان والحدوث، وكل منهما حقيقة واحدة في جميع الممكنات ، واستدل المصنف على إثبات هذا المطلب من العقلية بدليل آخر، فقال: (وكيف لا يكون) الباري تعالى (خالقا لفعل العبد) وموجدا له (وقدرته) تعالى (تامة) صالحة لخلق كل حادث (لا قصور فيها) ولا لها عن شيء منه; لأن المقتضي للقادرية هو الذات; لوجوب استناد صفاته تعالى إلى ذاته .

والمصحح للمقدورية هو الإسكان; لأن الوجوب والامتناع الذاتيين يحيلان المقدورية ونسبة الذات إلى جميع الكائنات في اقتضاء القادرية على السواء، فإذا ثبتت قدرته على بعضها ثبتت قدرته على كلها، وإلا لزم التحكم، وإليه أشار المصنف بقوله: (وهي متعلقة بحركة أبدان العباد، والحركات متماثلة، وتعلق القدرة بها لذاتها؟ فما الذي يقصر تعلقها عن بعض الحركات دون البعض مع تماثلها؟) فوجب إضافة الحوادث كلها إليه سبحانه بالخلق، قال ابن أبي شريف: وهذا الاستدلال مبني على ما ذهب إليه أهل الحق من أن المعدوم ليس [ ص: 165 ] بشيء، وإنما هو نفي محض لا امتياز فيه أصلا ولا تخصيص قطعا، فلا يتصور اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات بوجه من الوجوه، خلافا للمعتزلة، ومن أن المعدوم لا مادة له ولا صورة، خلافا للحكماء، وإلا لم يمتنع اختصاص بعض الممكنات دون بعض بمقدوريته تعالى، كما يقوله الخصم، إذ المعتزلي يقول: جاز أن يكون خصوصية بعض المعدومات الثابتة المتميزة مانعا من تعلق القدرة، والحكيم يقول: جاز أن تستبد المادة بحدوث ممكن دون آخر، وعلى هذين التقديرين لا تكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء .

ولما كان هذا الاستدلال لا يخلو عن ضعف; لابتناء دليله على أمر مختلف فيه يمنعه الخصم، قواه بدليل آخر، وقربه إلى الأفهام في أفعال غير العقلاء، وحاصل ما أشار إليه هو أن العبد لو كان خالقا لفعله لكان محيطا بتفاصيله، وهو لا يحيط بمعظم تفاصيل فعله، ولا يتصور القصد إلى إيجاد الفعل مع الجهل به، فقال: (أو كيف يكون الحيوان مستبدا) أي: مستقلا (بالاختراع) والإبداع من غير مثال سابق (ويصدر من العنكبوت) الحيوان المعروف (والنحل) هو ذباب العسل (وسائر الحيوانات) أي: مما عداهما (من لطائف الصناعات) وغرائب الأشكال (ما يتحير فيه عقول ذوي الألباب؟) فمن نسج العنكبوت الذي يصل إلى حد لا يتبين شيء من الخطوط الواهية التي تركب منها، ومن بناء النحل الشمع على الشكل المسدس الذي لا خلاء في بيوته ولا خلل فيها، ثم إلقاء العسل به أولا فأولا، إلى أن تمتلئ البيوت، ثم تختم بالشمع على وجه يعمها في غاية من اللطف (فكيف انفردت هي باختراعها) على هذا الشكل الغريب (دون رب الأرباب جل جلاله، وهي غير عالمة بتفصيل ما يصدر منها) وعنها (من الاكتساب؟ هيهات هيهات، ذلت المخلوقات، وتفرد بالملك والملكوت) أي: العالم السفلي والعلوي (جبار الأرض والسموات) وفي بعض النسخ: "جبار السموات"، فدل ذلك على أن ذلك الصنع الغريب، والفعل الواقع على غاية من الإتقان وحسن الترتيب واقع منه سبحانه، وصادر عنه دون تلك الحيوانات التي لا عقول لها ولا علم بتفاصيل ما يصدر عنها، وقد فرض الشيخ أبو الحسن الأشعري الدليل عليهم في أفعال الساهي والغافل; فإنها عندهم محض فعله مع سهوه وغفلته، ولو جاز وقوع الفعل من الجاهل بتفاصيله لبطلت دلالة الأفعال على علم الفاعل، فإن قالوا: هذا الدليل له يدل على امتناع الفعل من العبد، وغايته -لو سلم لكم- أن يدل على أنه ليس فاعلا له، وأنتم تدعون الامتناع، فلو قدر أن صادقا أنبأ شخصا بتفاصيل فعله للزم على موجب قولكم أن يصح كونه خالقا له، قلنا: الغرض من هذا الدليل إبطال ما صرتم إليه من أن الواقع من العبد محض فعله، وأنتم لا تقولون به، وإذا حاولنا الدليل على امتناع إحداث العبد لفعل ما، استدللنا بعموم قدرة الله تعالى وإرادته وعمله; فإن نسبتها إلى جميع الممكنات نسبة واحدة; فإن الفعل الممكن إنما افتقر إلى القادر من حيث إمكانه وحدوثه، فلو تخصصت صفاته تعالى ببعض الممكنات للزم اتصافه بنقيض تلك الصفات من الجهل والعجز، وذلك نقص، والنقص مستحيل عليه، ولاقتضى تخصيصها مخصصا، وتعلق المخصص بذات واجب الوجود وصفاته، وذلك محال، وإذا ثبت عموم صفاته فلو أراد الله تعالى إيجاد حادث، وأراد العبد خلافه، ونفذ مراد العبد دون مراد الله تعالى، لزم المحال المفروض في إثبات إلهين، والله أعلم .




الخدمات العلمية