الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأيده بالمعجزات الظاهرة ، والآيات الباهرة كانشقاق القمر .

التالي السابق


وقد تحدى بمعجزته جميع الإنس والجن.

(وأيده) الله سبحانه (بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة) ، معنى الآية: العلامة على صدقه، والمعجزة هي الآية مع التحدي بها، فكل معجزة آية، لا العكس، ثم المعجزة مأخوذة من العجز المقابل للقدرة، وحقيقة الإعجاز إثبات العجز، فاستعير لإظهاره، ثم أسند مجازا إلى ما هو سبب للعجز، ثم جعل اسما له، فقيل: معجزة، والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية، كما في الحقيقة، أو للمبالغة، كما في العلامة، وحقيقة المعجزة أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، موافق للدعوى، سالم من المعارض على يد مدعي النبوة .

قولنا: من يتناول الفعل، كانفجار الماء من بين أصابعه، وعدمه كعدم إحراق النار. وقيد إمام الحرمين المعجزة بفعل الله تعالى، وإليه مال المصنف، كما سيأتي في سياقه قريبا، وقد أورد عليهما أنها لا تنحصر في الفعل، بل كما أنها تكون بفعل غير المعتاد قد تكون بالمنع من الفعل المعتاد، مع سلامة البنية بعدم خلق الضرورة والداعي إلى الفعل، ومن اقتصر على الفعل فهو إما لأن العدم المضاف عنده فعل، وأثر للقدرة، وإما لأنه جعل المعجزة كون النار بردا وسلاما على إبراهيم، أو بقاء جسمه عليه السلام على ما كان عليه، لكن هذه الأجوبة كلها بحسب المادة .

وقولنا: خارق للعادة; يخرج المعتاد; إذ لا دلالة فيه; لاتحاد نسبته، فلا يدل .

وقولنا: مقرون بالتحدي، أي: المجاراة والمغالبة لغة، والمراد منه ربط الدعوى بالمعجز عند دعوى النبوة، وبهذا القيد تخرج كرامات الأولياء; لأنه لا تتحدى بالكلية، أو لا يتحدى بها على دعوى النبوة والرسالة، وإن جاز للولي أن يتحدى على ولايته وهو الصحيح، وأما خروج الإرهاصات فلأنها تكون قبل النبوة، فلم تكن مقرونة بالتحدي; إذ الإرهاص إحداث خارق في العادة يدل على بعثة نبي قبل بعثته، كأنه تأسيس لقاعدة نبوته. قال السعد: والقوم يعدون أمثال هذه - أي: كشق الصدر، وإظلال الغمامة، وتسليم الحجر- معجزات على سبيل التشبيه والتغليب .

وقولنا: مع الموافقة للدعوى معناه أن يكون ما يأتي به موافقا له في دعوى النبوة، بحيث لا يقتضي تكذيبه .

وقولنا: والسلامة من المعارض أي: في دعواه، بأن يدعي أحد نقيض دعواه، كما إذا ادعى أحد أنه نبي، وقارن دعواه خارق، ثم ادعى آخر أنه نبي، وأن ذلك المدعي أولا ليس بنبي [ ص: 204 ] وقارن دعواه خارق .

وقولنا: على يد مدعي النبوة; معناه أن يكون الخارق قائما بالنبي، كبياض يد موسى، عليه السلام، أو وجوده عند توجهه لوقوعه عازما عليه وطالبا إياه، كانقلاب العصا حية، فخرج ما إذا اتخذ الكاذب معجزة من يعاضده من الأنبياء لنفسه، وكذا يخرج ما إذا تقدم الخارق من المدعي ثم يدعي ويقول: معجزتي ما ظهر في الزمن الماضي; فإنه وإن كان خارقا إلا أنه لم يكن على يد مدعي النبوة في ذلك الزمن; إذ الفرض أنه لم يدع نبوة، وإذا علمت ذلك فاعرف أنه صلى الله عليه وسلم ادعى النبوة مقرونة بالمعجزة، فهو رسول الله قطعا، أما الصغرى، وهو أنه ادعى الرسالة، فبالضرورة حسا للمعاصر، وتواترا لغيره، وأما أن تلك الدعوى كانت مقرونة بالمعجزة، فبالمشاهدة للمعاصر، ولغيره بالتواتر لفظا ومعنى لغيره مما نقلته الآحاد، وبالجملة فمعجزاته صلى الله عليه وسلم على قسمين: باقية دائمة يشاهدها من كان وسيكون، وذلك هو القرآن العظيم، وغير دائمة، وهو ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من الخوارق الفعلية أو الغيوب القولية مما يتعلق بماض أو حال أو مستقبل، وهي لا تحصى عدة بالتحقيق .

أما القسم الأول -الذي هو القرآن- وأحد قسمي القسم الثاني -الذي هو الغيوب القولية- فسيذكرهما المصنف فيما بعد، وبقي القسم الأول من القسم الثاني، وهو الأفعال الخارقة للعادة، فذلك أيضا لا يحصى كثرة، وقد فصلت في دلائل النبوة لكل من البيهقي وأبي نعيم، لكن بعضها إرهاصا ظهر قبل دعوى النبوة، وبعضها تصديقا ظهر بعدها، وهي تنقسم إلى أمور ثابتة في ذاته وأمور متعلقة بصفاته، وأمور خارجة عنها، راجعة إلى أفعاله; فالأول كالنور الذي كان ينتقل في آبائه إلى أن ولد، وكولادته مختونا مسرورا واضعا إحدى يديه على عينيه والأخرى على سرته، وكذلك ما كان من خاتم النبوة بين كتفيه، وطول قامته عند الطويل، ووساطته عند الوسط، ورؤيته من خلف، كما كان يرى من قدام، ورؤيته في الظلمة كما يرى في الضوء، ورؤيته البعيد كما يرى القريب، وكون جسمه شفافا; فلم يقع له ظل على الأرض، ولم يمنع رائي الشمس مع حيلولته، والثاني ما يرجع إلى صفاته، وذلك ما استجمعه مما هو في الغاية القصوى وغاية الكمال في ذلك من الصدق والأمانة والعفاف والشجاعة والعدل والحكمة والفصاحة والسماحة والزهد والتواضع لأهل المسكنة، والشفقة على الأمة، والمصابرة على مصاعب الرسالة، والمواظبة على مكارم الأخلاق، وبلوغه النهاية في العلوم الإلهية، وتمهيد قواعد المصالح الدينية والدنيوية، وما كان عليه من استجابة الدعوة، دعا لابن عباس بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، فكان بحرا وإماما للمفسرين، ودعا على عتبة بقوله: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك"، فافترسه الأسد، وعلى سراقة حين لحقه فساخت قوائم فرسه .

والثالث ما هو خارج عن ذاته وصفاته، وهو (كانشقاق القمر) له فلقتين، ومحل الانشقاق كان بمكة، وقيل: بمنى، قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى-: حدثني الهيثم بن حبيب الصيرفي عن عامر الشعبي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلقتين، أي: شقين متباعدين، بحيث كان الجبل بينهما، وكان ذلك في مقام التحدي، فكان معجزة، كما في شرح المواقف، والحديث متفق عليه من حديث أنس وابن مسعود وابن عباس، قاله العراقي، قلت: وأخرجه أحمد، وأبو داود الطيالسي، وأبو عوانة، وإسحق، وعبدالرزاق والطبراني وابن مردويه، من حديث ابن مسعود وابن عباس، والبيهقي وأبو نعيم من حديث ابن مسعود، وفي رواية عن أنس أن ذلك كان بعد سؤال المشركين، وفي رواية أبي نعيم عن ابن مسعود: لقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة. وأخرجه البيهقي وعياض عن علي وحذيفة، ومسلم والترمذي عن ابن عمر، وأحمد والبيهقي عن جبير بن مطعم، وقال ابن السبكي: إنه متواتر .



(تنبيه)

أنس وابن عباس رضي الله عنهما لم يحضرا الانشقاق; لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد، وأما أنس فكان ابن أربع أو خمس بالمدينة، وأما غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك. كذا في المواهب .



(غريبة)

أكرم الله موسى بفلق البحر في الأرض، وأكرم محمدا صلى الله [ ص: 205 ] عليه وسلم ففلق له القمر في السماء، فانظر إلى فرق ما بين السماء والأرض، كما في تفسير الرازي، في سورة الكوثر .




الخدمات العلمية