الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفي الحديث عن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أعطى رجلا عطاء ، ولم يعط الآخر ، فقال له سعد : يا رسول الله ، تركت فلانا لم تعطه وهو مؤمن ، فقال صلى الله عليه وسلم أو مسلم فأعاد عليه فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما التداخل فما روي أيضا أنه : سئل فقيل : أي الأعمال أفضل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " الإسلام ". فقال أي الإسلام أفضل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " الإيمان " وهذا دليل على الاختلاف وعلى التداخل .

التالي السابق


(وفي حديث سعد) بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه -أحد العشرة المبشرة المشهود لهم بالجنة، وآخر من توفي منهم سنة سبع وخمسين- (أنه صلى الله عليه وسلم أعطى رجلا عطاء، ولم يعط الآخر، فقال له سعد: يا رسول الله، تركت فلانا لم تعطه وهو مؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم: "أو مسلم؟". فرد عليه، فأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، هكذا أورده صاحب القوت، وقال العراقي: أخرجاه بنحوه. اهـ .

قلت: أخرجاه في الإيمان والزكاة من طريق شعيب عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه، وأخرجه عبدالرحمن بن عمر في كتاب الإيمان من طريق يونس عن الزهري ليس فيه إعادة السؤال ولا الجواب عنه، وأخرجه أحمد والحميدي في مسنديهما عن عبدالرزاق عن معمر الزهري، وعند البخاري في كتاب الزكاة من طريق صالح عن الزهري، ولفظه في كتاب الإيمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا وسعد جالس، فترك رجلا هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنا؟ فقال: "أو مسلما". فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي فقلت: ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنا؟ فقال: "أو مسلما". فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "يا سعد، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار". معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بحضور سعد جماعة من المؤلفة شيئا من الدنيا لما سألوه; يستألفهم لضعف إيمانهم، فترك رجلا في الجماعة هو جعيل بن سراقة الضمري المهاجري، أحد أصحاب الصفة، قال سعد: هو أصلحهم وأفضلهم في اعتقادي، فلم يعطه، وقوله: "لأراه"، بفتح الهمزة، أي: أعلمه، وفي رواية أبي ذر بضمها، بمعنى أظنه، وبه جزم القرطبي في المفهم، وكذا رواه الإسماعيلي وغيره، ولم يجوزه النووي في شرحه على البخاري محتجا بقوله: ثم غلبني ما أعلم منه. ولأنه راجع مرارا، فلو لم يكن جازما باعتقاده لما كرره، وتعقب بأنه لا دلالة فيه على تعين الفتح; لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب، كما قاله البيضاوي، وقوله: "أو مسلما"، بسكون الواو فقط، ومعناه النهي عن القطع بإيمان من لم يختبر حاله الخبرة الباطنة; لأن الباطن لا يطلع عليه إلا الله تعالى، فالأولى التعبير بالإسلام الظاهر، وإنما لم يقبل صلى الله عليه وسلم قول سعد في جعيل لأنه لم يخرج مخرج الشهادة، وإنما هو مدح له، وتوصل في الطلب لأجله، ولهذا ناقشه في لفظه، وقوله: "خشية أن يكبه الله في النار"، أي: لكفره، إما بارتداده إن لم يعط، أو لكونه ينسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البخل، وأما من قوي إيمانه فهو أحب إلي، فأكله إلى إيمانه، ولا أخشى عليه رجوعا عن دينه، ولا سوءا في اعتقاده، واستدل به عياض على عدم ترادف الإيمان والإسلام، وقد ظهر مما تقدم أن صاحب القوت أورد هذا الحديث رواية بالمعنى، والمصنف تبعه في سياقه .

(وروي أيضا أنه) صلى الله عليه وسلم (سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الإسلام". فقال) أي: السائل: (أي الإسلام أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان") . هكذا أورده صاحب القوت، وقال العراقي: أخرجه أحمد والطبراني من حديث عمرو بن عبسة بالشطر الأخير، قال رجل: يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان"، الحديث، وإسناده صحيح، ولكنه منقطع. اهـ .

ووجدت في حاشية كتاب المغني ما نصه: علقه البخاري ووصله الحاكم في الأربعين. قلت: والذي في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". ومن حديث أبي هريرة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله"، الحديث، وأخرجه أيضا مسلم والنسائي والترمذي بألفاظ (وهذا دليل على الاختلاف وعلى التداخل) ، أما على الاختلاف فظاهر سياق كل ذلك واضح لمن تأمله، وأبى في كل ذلك الشيخ أبو طالب المكي، إلا أن يكون على التداخل، ونحن ذاكرون كلامه على الاختصار، وإن كان في سياق المصنف الآتي إلمام به، قال:

[ ص: 238 ] الإيمان والإسلام اسمان بمعنى واحد، وقد جعل الله ضدهما واحدا، وهو الكفر، فلولا أنهما كشيء واحد في الحكم والمعنى ما كان ضدهما واحدا .

ثم ساق آيات من القرآن تدل على ذلك، منها قوله تعالى: أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ، ثم قال: وعلى هذا أخبر صلى الله عليه وسلم عنهما بوصف واحد، فأورد حديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس"، وحديث ابن عباس في وفد عبد القيس، ثم قال: فدل على أن الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما دون صاحبه، ولا يصح أحدهما إلا بالآخر، كما لا يصحان ولا يوجدان معا إلا بنفي ضدهما، ثم قال: وقد اشترط الله عز وجل للإيمان العمل الصالح، ونفى النفع بالإيمان إلا بالعمل ووجوده، واشترط للإيمان الإسلام، ثم أورد آيات من القرآن تدل على ذلك، ثم قال: فشرط الإيمان العمل والتقوى، كما اشترط للأعمال الصالحة الإيمان، فكما أن أعمال العبد الصالحات لا تنفعه إلا بإيمان، فكذلك لو آمن بالإيمان لله عز وجل لم ينفعه إلا بالأعمال الصالحة .

وفي وصية لقمان لابنه: "يا بني، لا يصلح الزرع إلا بالماء، فكذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل" .

وأما تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل لما سأله عن الإيمان والإسلام فإن ذلك تفضيل أعمال القلوب وعقودها على ما يوافق هذه المعاني التي وصفها لأن تكون عقودا من تفضيل أعمال الجوارح، وفيما يوجب الأفعال الظاهرة التي وصفها أن تكون علانيته أن ذلك تفريق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضاد، ليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم، وقد يجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن، فيكون ما ذكرناه من عقود القلب، ووصف قلبه ما ذكره من العلانية وصف ظاهر حسي، الدليل على ذلك أنه جعل وصف الاثنين معنى واحدا، ثم قال: والوجه الثاني من تأويل الخبر أن معنى قوله: "أو مسلم"، يعنى به: "أو مستسلم"، فإذا جمع بين عقود القلب وبين أعمال الجوارح كان مسلما مؤمنا، ومن لم يقل بهذا الذي ذكرنا فقد كفر أبا بكر رضي الله عنه وجهله في قتال أهل الردة، وادعى عليه أنه قتل المؤمنين; لأن القوم قد جاؤوا بعقود الإيمان، ولم يجحدوا أكثر الأعمال، وإنما أنكروا الزكاة، فاستحل قتلهم، وواطأه الصحابة حتى استتاب من رجع منهم، وأما حديث سعد الذي ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المسلم والمؤمن فإنما فيه دليل على تقوية الإيمان والإسلام في التفاضل والمقامات، أي: ليس هو من خصوص المؤمنين ولا أفاضلهم، وكشف عن مقامه الذي خفي على سعد، كما كشف عن مقام حارثة عن حقيقة إيمانه، وكان خاملا لا يؤبه به، فقال: "كيف أصبحت يا حارثة؟". فنطق بوجده عن مشاهدته، فقال له: "عرفت فالزم". فهذا دليل لنا في تفضيل مقام الإيمان على مقام الإسلام، وأن المؤمنين متفاضلون في الإيمان، وإن تساووا في أعمال الجوارح من الإسلام، وأن الإيمان لا حد له، وإن كان صحته بحدود الإسلام فآثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آمن طوعا على الذي آمن كرها، وكان صلى الله عليه وسلم إنما يعطي المؤلفة الرؤساء ومن لا يؤمن عاديته، وجمعه على المسلمين تحريضا للمشركين، كما أكرم الرجل بعدما تكلم فيه، فقيل له في ذلك، فقال: "هذا أحمق مطاع". فأما الأتباع والسفلة من المؤلفة فلم يكن يؤثرهم بالعطاء، بل كان يؤثر المؤمنين ويقدمهم على أراذل المؤلفة وضعفائهم .

وقلت: وهذا التوجيه لا يكاد يصح; لما قدمنا أن الرجل المبهم في الحديث المذكور هو جعيل بن سراقة الضمري، من المهاجرين، ومن أهل الصفة، ولم يكن من أتباع المؤلفة، ولو كان كما قال إنه من أراذل المؤلفة; لم يسع سعدا رضي الله عنه كثرة المراجعة والتكرار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنه، وقوله فيه: هو أعجبهم إلي، فتأمل ذلك .

ثم قال صاحب القوت: فإن قيل: قد روي في آخر هذا الحديث في بعض الروايات ما يرد على هذا التأويل، فإن الرجل كان فاضلا; لأنه كان مستسلما، وهو أن في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي قوما وأمنع آخرين أكلهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان". قيل: هذا الكلام مستأنف من رسول الله صلى الله عليه وسلم إفادة للقائل; لأنه بعث بجوامع الكلم، وكان يسأل عن الشيء فيخبر به ويزيد عليه للبيان والهداية الذي أعطي، فكأنه أراد أن يخبر بتنويع العطاء، وبضروب المعطين من الناس: هذا للحاجة، وهذا للفضل، وهذا للتأليف; لأن الذي [ ص: 239 ] منعه كان أفضل من الذي أعطاه; إذ لو كان الأمر كما قال هذا القائل كان الإسلام أفضل من الإيمان، ولكان المسلمون أفضل من المؤمنين، ولم يقل هذا أحد من العلماء; لأن الإيمان خاص، فيه التفاوت والمقامات، فهو مشتمل على الإسلام، والإسلام داخل فيه، والمؤمنون هم خصوص المسلمين، ومنهم المقربون والصديقون والشهداء، والإسلام عمل محدود يوصف به عموم المؤمنين، ويدخل فيه صاحب الكبائر، ولا يخرج منه من فارق الكفر ووقع عليه اسم الإيمان، فعلى إجماعهم أن الإيمان على إسقاط فهم من وهم أن الرجل كان أفضل، كيف وقد روينا في تخصيص الإيمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإسلام". ثم ساق الحديث الذي أورده المصنف، ثم قال: فجعل الإيمان مقاما في الإسلام، ففي هذا الحديث أيضا تخصيص الإيمان على الإسلام، لا تفرقة بينهما، بمعنى قوله في وصف الرجل: "أو مسلم". فدل على بطلان ما تأوله القائل; لأن هذه اللفظة بألف الاستفهام، والعرب لا تستعمل هذا في عرف الكلام إلا في الوصف إلى نقص، وإلى الحال الأدنى، فافهم ذلك .

قلت: وهذا التوجيه الذي ذكره بعيد أيضا، والاستئناف الذي ادعاه في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل به أحد من المحدثين، وبقية الحديث الذي ذكرها أوردها بالمعنى، لا باللفظ، وقد تقدم لفظ الحديث من الصحيحين، وقوله: لأن هذه اللفظة بألف الاستفهام; غير صحيح، فقد ضبط شراح الحديث أنه بسكون الواو، وأنه للإضراب، كذا قاله الزركشي، وإن تعقبه الدماميني بأن سيبويه يرى للإضراب شرطين: تقدم نفي، أو نهي، وإعادة العامل، نحو: "ما قام زيد"، أو: "ما قام عمرو"، و: "لا يقم زيد"، أو: "لا يقم عمرو"، وكلاهما منتف في الحديث; فإن بعض البصريين يرون الإضراب مطلقا، ثم إن الإضراب هنا ليس بمعنى كون إنكار الرجل مؤمنا، بل معناه النهي عن القطع بإيمان من لم يختبر حاله الخبرة الباطنة، كما قدمناه، ومنهم من جعل "أو" هنا للشك، والمعنى: لأراه مؤمنا أو مسلما، أرشده بذلك إلى حسن التعبير بعبارة سالمة عن الحرج; إذ لا بت فيها بأمر باطن لا يطلع عليه، فتأمل .

تم قال صاحب القوت: وأما قوله تعالى: قالت الأعراب آمنا ، الآية، فإن هذه أيضا من هذا النوع، معناه: قولوا: استسلمنا; حذر القتل. وهؤلاء ضعفاء المؤلفة; لأن أراذلهم كانوا ينقمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثاره وتقديمه للمؤمنين بالعطاء عليهم، فقالوا: لم تعطنا كما تعطي المؤمنين; فإنا مؤمنون مثلهم، فأخبر بذلك عنهم، وأكذبهم في دعواهم الإيمان، ففيه دليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعطي هذا الضرب من المؤلفة، وليس في الآية تفريق بين الإسلام والإيمان، بدليل قوله تعالى في الآية التي بعدها: يمنون عليك أن أسلموا ، الآية، فسمى إسلامهم إيمانا; لأنه عطف بعض الكلام على بعض، ورد أوله إلى آخره للمنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأثبت المن عليهم بتقديم آخر الاسم على أوله، وغاير بين اللفظين، فلم يرد إحداهما على الأخرى فيقول: أن هداكم للإسلام; لاتساع لسان العرب، وليفيدنا فضل بيان، وأن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى، فهو كقوله تعالى: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين ، الآية، قلت: وربما هذه الآية تضادها الآية الأخرى: قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ; فإنهما لو كانا شيئا واحدا للزم إثبات شيء ونفيه في حالة واحدة. وقد يجاب بأن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية بمعنى الانقياد الظاهر من غير انقياد الباطن .




الخدمات العلمية