الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت فما : شبهة المعتزلة والمرجئة وما حجة بطلان قولهم فأقول : شبهتهم عمومات القرآن أما ، المرجئة فقالوا لا : يدخل المؤمن النار وإن أتى بكل المعاصي لقوله عز وجل فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ولقوله سبحانه وتعالى : والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون الآية ولقوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها إلى قوله : فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء فقوله : كلما ألقي فيها فوج عام فينبغي أن يكون من ألقي في النار مكذبا ولقوله تعالى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وهذا حصر وإثبات ونفي ولقوله تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون فالإيمان رأس الحسنات ، ولقوله تعالى والله يحب المحسنين وقال تعالى : إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ولا حجة لهم في ذلك فإنه حيث ذكر الإيمان في هذه الآيات أريد به الإيمان مع العمل إذ بينا أن الإيمان قد يطلق ويراد به الإسلام وهو الموافقة بالقلب والقول والعمل ودليل هذا التأويل أخبار كثيرة في معاقبة العاصين ومقادير العقاب وقوله صلى الله عليه وسلم : يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فكيف يخرج إذا لم يدخل ومن القرآن قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والاستثناء بالمشيئة يدل على الانقسام وقوله تعالى : ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها وتخصيصه بالكفر تحكم وقوله تعالى : ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ، وقال تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار فهذه العمومات في معارضة عموماتهم ولا بد من تسليط التخصص والتأويل على الجانبين ; لأن الأخبار مصرحة بأن العصاة يعذبون بل قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كالصريح في أن ذلك لا بد منه للكل إذ لا يخلو مؤمن عن ذنب يرتكبه وقوله تعالى : لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى أراد به من جماعة مخصوصين أو أراد بالأشقى شخصا معينا أيضا وقوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها أي : فوج من الكفار وتخصيص العمومات قريب .

ومن هذه الآية وقع للأشعري وطائفة من المتكلمين إنكار صيغ العموم وأن هذه الألفاظ يتوقف فيها إلى ظهور قرينة تدل على معناها .

التالي السابق


ثم عاد المصنف إلى ما سبق الوعد به آنفا من رد شبه المعتزلة والجهمية، وقال: (فإن قلت: ما شبهة المعتزلة والمرجئة) والفرقتان من فحول المتكلمين، وما لم يعرف أصل ما تعلقوا به من الكتاب والسنة، لم يعرف وجه الرد عليهم، وتميز الباطل من الحق، ولذا قال: (وما حجة بطلان قولهم) فبينوا لنا ذلك، فأشار إلى الجواب بقوله: (فأقول: شبهتهم) وأصل الشبهة مشابهة الحق للباطل، والباطل للحق من وجه إذا حقق النظر فيه ذهب، أي فالذي تمسكوا به (عمومات) ، وردت في آي من (القرآن،أما المرجئة) فإنهم (قالوا: لا يدخل المؤمن النار وإن أتى بكل المعاصي) بناء على أن المعصية لا تضر الإيمان، كما أن الكفر لا تنفع معه طاعة، وجعلوه أصلا من أصولهم، ثم بنوا عليه قواعدهم; نظرا (لقوله عز وجل) في سورة الجن: ( فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ) أي نقصا على طريق الظلم، ( ولا رهقا ) أي: عسرة، وكلفة، (ولقوله عز وجل: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) ، أي: المواددون لله بحسن إخلاصهم، ووجه الدلالة قصر من اتصف بالإيمان على الصديقين، (ولقوله تعالى: كلما ألقي فيها فوج ) ، أي جماعة ( سألهم خزنتها ) جمع خازن، والمراد الملائكة الموكلون بها، (إلى قوله: فكذبنا ) ، وهو قوله تعالى: ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا ، ( وقلنا ما نزل الله من شيء) إن أنتم إلا في ضلال كبير .

قال القاضي: وفي قوله: ألم يأتكم نذير توبيخ وتبكيت، وقوله: فكذبنا ، أي كذبنا الرسل، وأفرطنا في التكذيب، حتى منعنا النبوة والإرسال رأسا، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال، (و) وجه الدلالة أن (قوله: كلما ألقي عام) مستغرق لجميع من ألقي، (فينبغي أن يكون كل من ألقي في النار مكذبا) ، كما هو ظاهر .

(ولقوله) تعالى: ( لا يصلاها ) أي لا يجد حرها أو لا يلزمها، مقاسيا شدتها ( إلا الأشقى ) الكافر فإن الفاسق وإن دخلها لم يلزمها، ولذلك كان أشقى، ووصفه بقوله : ( الذي كذب وتولى وهذا) فيه (حصر) ، أي: الذي كذب الرسل بما جاءوا به من عند الله تعالى، وأعرض عنهم هو الذي يصلاها لا غير، (وإثبات ونفي) ، ولو قال: ونفي وإثبات لصح أيضا .

(ولقوله تعالى: من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ) أي: من خوف يوم القيامة، قالوا: (والإيمان رأس الحسنات، ولقوله تعالى) والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس (والله يحب المحسنين وقال) الله (تعالى: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) .

فهذه سبع آيات تمسك بعموماتها المرجئة، (ولا حجة لهم في ذلك) كله، (فإنه حيث ذكر الإيمان في هذه الآيات) ، وهي الآية الأولى، والتي بعدها جاء فيهما ذكر الإيمان تصريحا، وأما في الأخيرة واللتان قبلهما فتلويحا فإنما (أريد به الإيمان مع العمل) بالأركان وهو شرط كماله (إذ) قد (بينا) آنفا (أن الإيمان قد يطلق ويراد به الإسلام وهو) الاستسلام الباطن الذي هو عبارة عن (الموافقة بالقلب) تصديقا (والقول) نطقا (والعمل) أداء (ودليل هذا التأويل) الذي صرنا إليه من أن المراد بالإيمان هو الإسلام الباطن، (أخبار كثيرة) صح ورودها (في معاقبة العاصين) والمذنبين، (و) أخبار أخرى في (مقادير العقاب) مما يتلى في كتب أهل السنة متونا وشروحا، (و) من أدلة ذلك أيضا، (قوله صلى الله عليه وسلم: يخرج من النار [ ص: 251 ] من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان) ، وقد تقدم الكلام عليه مرارا، (فكيف يخرج إذا لم يدخل) ، أي: كيف يتصور الخروج من شيء إلا بعد الدخول فيه، أو الإخراج إلا بعد الإدخال على اختلاف الروايتين، (و) دليله من القرآن (قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ، أي: يكفر به، ولو بتكذيب نبيه; لأن من جحد نبوة الرسول عليه السلام مثلا فهو كافر، ولو لم يجعل مع الله إلها آخر، والمغفرة منتفية عنه، بلا خلاف، ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فصير ما دون الشرك تحت إمكان المغفرة، فمن مات على التوحيد غير مخلد في النار، وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما عساه أن يرتكب .

(والاستثناء بالمشيئة يدل على الانقسام) إلى كبيرة وصغيرة، ففيه تجويز العقاب على الصغيرة سواء اجتنب مرتكبها الكبيرة أم لا; لقوله تعالى: لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، والإحصاء إنما يكون للسؤال والجزاء .

(و) مثله في تجويز العقاب على الصغيرة (قوله تعالى: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا وتخصيصه بالكفر تحكم) بلا دليل .

(و) مثله (قوله تعالى: ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ، وقال تعالى: ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ) ، والمراد بالسيئة في مقابلة الحسنة أعم من أن تكون صغيرة أو كبيرة، (فهذه العمومات) الواردة في الآي السابقة (في معارضة) أي مقابلة (عموماتهم) التي تمسكوا بها، (ولا بد من تسليط التخصيص) في تلك العمومات فإنه ما من عام إلا وقد خص، (و) لا بد من (التأويل على الجانبين; لأن الأخبار) الصحيحة (مصرحة بأن العصاة يعذبون) على قدر ذنوبهم، منها ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث أنس رفعه: "ليصيبن أقواما سفع بذنوب أصابوها"، ويأتي للمصنف ذكر عدة أحاديث في تعذيب العصاة في آخر الكتاب عند ذكر الموت، نتكلم عليها إن شاء الله تعالى .

(بل قوله تعالى: وإن منكم إلا واردها) كان على ربك حتما مقضيا (كالتصريح في أن ذلك) ، أي: الورود (لا بد منه للكل إذ لا يخلو مؤمن عن ذنب يرتكبه) ، وقد تقدم أن ورود الصراط هو ورود النار لكل أحد، وبهذا فسر الآية ابن مسعود، والحسن، وقتادة، ثم قال تعالى: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ، وبعضهم فسر الورود بالدخول، كما في حديث جابر رفعه، وزاد: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار لضجيجا من بردهم، ثم ننجي الذين اتقوا الآية"، رواه أحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، والنسائي في الكنى، والبيهقي وغيرهم وهو حسن .

(و) أما ما تمسكوا به من (قوله تعالى: لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ) ، فإنما (أراد به) أي بالأشقى (من جماعة مخصوصين) فإنه صيغة أفعل التفضيل، (إذ أراد بالأشقى شخصا معينا أيضا) ، هو أمية بن خلف، كما يفهم من سياق البغوي .

(و) أما ما تقدم من الاستدلال (من قوله تعالى: كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ) ، فإن المراد منه، (أي: فوج من الكفار) ، وفي تفسير القاضي جماعة من الكفرة، (وتخصيص العمومات قريب) لا ينكر، (ومن هذه الآية) أي: التي ذكرت (وقع للأشعري) الإمام أبي الحسن، (وطائفة من المتكلمين إنكار صيغ العموم) مطلقا. (وإن هذه الألفاظ) التي وردت بالعموم (يتوقف فيها إلى أن ترد قرينة تدل على معناها) .

قال صاحب المصباح: اللفظ العام خلا من الخاص، وهو لفظ واحد دل على اثنين فصاعدا من جهة واحدة مطلقا، ومعنى العموم إذا اقتضاه اللفظ ترك التفصيل إلى الإجمال، ويختلف العموم بحسب المقامات وما يضاف إليها من قرائن الأحوال .

قال القطب الشيرازي: فما أمكن استيعابه يستعمل فيه متى، وما لم يمكن استيعابه يزاد ما عليه، فيقال: متى ما; لإن زيادتها تؤدي بتغيير المعنى وانتقاله من المعنى الأعم إلى معنى عام، كما ينقل المعنى، ويغيره إذا دخلت على إن وأخواتها .




الخدمات العلمية