مسألة .
فإن قلت : ما وجه قول السلف أنا مؤمن إن شاء الله والاستثناء شك وقد كانوا كلهم يمتنعون عن جزم الجواب بالإيمان ويحترزون عنه . والشك في الإيمان كفر
فقال سفيان الثوري رحمه الله من قال : أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين ، ومن قال : أنا مؤمن حقا فهو بدعة فكيف يكون كاذبا وهو يعلم أنه مؤمن في نفسه ومن كان ، مؤمنا في نفسه كان مؤمنا عند الله كما أن من كان طويلا وسخيا في نفسه ، وعلم ذلك كان كذلك عند الله ، وكذا من كان مسرورا أو حزينا أو سميعا أو بصيرا ولو قيل للإنسان : هل أنت حيوان لم يحسن أن يقول أنا حيوان إن شاء الله .
ولما قال سفيان ذلك قيل له : فماذا نقول ؟ قال : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وأي فرق بين أن يقول آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وبين أن يقول أنا مؤمن وقيل للحسن أمؤمن أنت ؟ فقال إن شاء الله ، فقيل له لم : تستثني يا أبا سعيد في الإيمان فقال : أخاف أن أقول نعم ، فيقول الله سبحانه : كذبت يا حسن ; فتحق علي الكلمة .
وكان يقول : ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكره ، فمقتني ، وقال اذهب لا قبلت لك عملا ، فأنا أعمل في غير معمل .
وقال إبراهيم بن أدهم إذا قيل لك أمؤمن أنت ؟ فقل : لا إله إلا الله وقال مرة قل : أنا لا أشك في الإيمان ، وسؤالك إياي بدعة .
وقيل لعلقمة أمؤمن أنت قال ؟ : أرجو إن شاء الله .
وقال الثوري : نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما ندري ما نحن عند الله تعالى فما معنى هذه الاستثناءات فالجواب أن هذا الاستثناء صحيح ، وله أربعة أوجه : وجهان مستندان إلى الشك لا في أصل الإيمان ولكن في خاتمته أو كماله وجهان لا يستندان إلى الشك .
الوجه الأول الذي : لا يستند إلى معارضة الشك الاحتراز من الجزم خيفة ما فيه من تزكية النفس قال الله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم وقال ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم وقال تعالى : انظر كيف يفترون على الله الكذب وقيل لحكيم : ما الصدق القبيح ، فقال : ثناء المرء على نفسه .
والجزم تزكية مطلقة وصيغة الاستثناء كأنها ثقل من عرف التزكية كما يقال للإنسان أنت طبيب أو فقيه ، أو مفسر فيقول : نعم إن شاء الله لا في معرض التشكيك ولكن لإخراج نفسه عن تزكية نفسه فالصيغة صيغة الترديد والتضعيف لنفس الخبر ، ومعناه التضعيف اللازم من لوازم الخبر ، وهو التزكية . والإيمان من أعلى صفات المجد
وبهذا التأويل لو سئل عن وصف ذم لم يحسن الاستثناء .
الوجه الثاني التأدب بذكر الله تعالى في كل حال وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله سبحانه فقد أدب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ثم لم يقتصر على ذلك فيما لا يشك فيه ، بل قال تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين وكان الله سبحانه عالما بأنهم يدخلون لا محالة وأنه شاءه ولكن المقصود تعليمه ذلك فتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما كان يخبر عنه معلوما كان أو مشكوكا ، حتى قال صلى الله عليه وسلم لما دخل المقابر السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون واللحوق بهم غير مشكوك فيه ، ولكن مقتضى الأدب ذكر الله تعالى وربط الأمور به .
وهذه الصيغة دالة عليه حتى صار بعرف الاستعمال عبارة عن إظهار الرغبة والتمني فإذا قيل لك : إن فلانا يموت سريعا فتقول إن شاء الله ، فيفهم منه رغبتك لا تشكك وإذا ، قيل لك : فلان سيزول مرضه ويصح فتقول : إن شاء الله بمعنى الرغبة فقد صارت الكلمة معدولة عن معنى التشكيك إلى معنى الرغبة وكذلك ، العدول إلى معنى التأدب لذكر الله تعالى كيف كان الأمر .