الوجه الرابع: أن يقال: سلمنا أنه يجب
nindex.php?page=treesubj&link=21303التأويل عند مخالفة الحس والعقليات الضرورية، كما يخص العموم بذلك، عند من يسمي ذلك تخصيصا، في مثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23وأوتيت من كل شيء [النمل: 23]، و
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=25تدمر كل شيء [الأحقاف: 25]، ونحو
[ ص: 286 ] ذلك فلم قلت: إنه يجوز أو يجب التأويل عند مخالفة النظريات العقلية؟.
والفرق بينهما من وجوه:
أحدها: أن ما يعلم بالحس والبديهة يكون علمه حاصلا عند المستمعين، وبيانه مقارنا لخطاب المتكلم، أو سابقا عليه، أو لاحقا له قريبا، ومعلوم أن الخطاب لا يكون إلا لمن معه من العلم ما يدله على معنى الخطاب، بحيث يكون عالما بالمتكلم ولغته، وغير ذلك، وإذا كان كذلك كان وجود العلوم الضرورية والحسية عند المخاطبين مما لا بد منه في صحة كونهم مخاطبين فيكون ذلك من أسباب معرفتهم بمعنى الخطاب، ويكون الخطاب على هذا الوجه هدى وبيانا وشفاء، ولا يكون إضلالا ولا تلبيسا.
أما النظريات التي [لا تعرف] إلا بدقيق النظر وطويله، ويقع فيها النزاع، فإذا خوطبوا بما ظاهره الكفر والضلال ولم يتبين لهم المعنى المراد، ولا يعرفونه إلا بمثل هذه الوجوه إن عرفوه كان هذا إضلالا وتلبيسا، بل كان عدم الخطاب أنفع وأهدى لهم، إذ كانوا بدون الخطاب يعرفون الحق بهذه النظريات من غير معارض وإذا خوطبوا بما يعارض هذه العلوم
[ ص: 287 ] كان قد أظهر لهم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والأمر باعتقاد الباطل من غير بيان.
الوجه الثاني: أن العلوم الحسية والبديهية تكون مقارنة للخطاب، فتمنع عن فهم الباطل [ابتداء بخلاف] هذه النظريات.
الوجه الثالث: أن مثل هذه العلوم (لا يقع فيها نزاع واختلاف) فلا يفضي ذلك إلى ما نهوا عنه من التفرق والاختلاف، بخلاف النظريات الدقيقة المشتبهة.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَجِبُ
nindex.php?page=treesubj&link=21303التَّأْوِيلُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْحِسِّ وَالْعَقْلِيَّاتِ الضَّرُورِيَّةِ، كَمَا يُخَصُّ الْعُمُومُ بِذَلِكَ، عِنْدَ مَنْ يُسَمِّي ذَلِكَ تَخْصِيصًا، فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=23وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23]، وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=25تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَحْقَافِ: 25]، وَنَحْوِ
[ ص: 286 ] ذَلِكَ فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ التَّأْوِيلُ عِنْدَ مُخَالَفَةِ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ؟.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَا يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَالْبَدِيهَةِ يَكُونُ عِلْمُهُ حَاصِلًا عِنْدَ الْمُسْتَمِعِينَ، وَبَيَانُهُ مُقَارِنًا لِخِطَابِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ سَابِقًا عَلَيْهِ، أَوْ لَاحِقًا لَهُ قَرِيبًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَدُلُّهُ عَلَى مَعْنَى الْخِطَابِ، بِحَيْثُ يَكُونُ عَالِمًا بِالْمُتَكَلِّمِ وَلُغَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ عِنْدَ الْمُخَاطِبِينَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي صِحَّةِ كَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَعْنَى الْخِطَابِ، وَيَكُونُ الْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُدًى وَبَيَانًا وَشِفَاءً، وَلَا يَكُونُ إِضْلَالًا وَلَا تَلْبِيسًا.
أَمَّا النَّظَرِيَّاتُ الَّتِي [لَا تُعْرَفُ] إِلَّا بِدَقِيقِ النَّظَرِ وَطَوِيلِهِ، وَيَقَعُ فِيهَا النِّزَاعُ، فَإِذَا خُوطِبُوا بِمَا ظَاهِرُهُ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، وَلَا يَعْرِفُونَهُ إِلَّا بِمِثْلِ هَذِهِ الْوُجُوهِ إِنْ عَرَفُوهُ كَانَ هَذَا إِضْلَالًا وَتَلْبِيسًا، بَلْ كَانَ عَدَمُ الْخِطَابِ أَنْفَعَ وَأَهْدَى لَهُمْ، إِذْ كَانُوا بِدُونِ الْخِطَابِ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ بِهَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ وَإِذَا خُوطِبُوا بِمَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْعُلُومَ
[ ص: 287 ] كَانَ قَدْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْأَمْرَ بِالْمُنْكِرِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَالْأَمْرَ بِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعُلُومَ الْحِسِّيَّةَ وَالْبَدِيهِيَّةَ تَكُونُ مُقَارِنَةً لِلْخِطَابِ، فَتَمْنَعُ عَنْ فَهْمِ الْبَاطِلِ [ابْتِدَاءً بِخِلَافِ] هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعُلُومِ (لَا يَقَعُ فِيهَا نِزَاعٌ وَاخْتِلَافٌ) فَلَا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى مَا نَهَوْا عَنْهُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، بِخِلَافِ النَّظَرِيَّاتِ الدَّقِيقَةِ الْمُشْتَبِهَةِ.