[ ص: 461 ] الوجه الثامن: قوله: «إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» فإن الذكر قول وكلام، وسواء أريد الذكر الكامن أو اللفظ فإنه على التقديرين، لا يقوم إلا بالذاكر نفسه وعينه، لا يقوم بصفة من صفاته، فعلم أن ذكر الله في الله نفسه، وذكر العبد لله في نفسه.
الوجه التاسع: قوله: إذا كان المراد به هو نفسه وذاته، فكذلك الآخر. «إن ذكرني في نفسه»
الوجه العاشر: قوله في الحديث الصحيح: فهو لا يكتب على صفة له كالحياة والبقاء وإنما يكتب على نفسه، فإن قالوا: إن جاز حمل النفس على الذات جاز حمل الحياة والبقاء على الذات، فيقال: ذات حية، ذات باقية، وقد أجمعنا ومثبتو الصفات على أنه حي بحياة، باق ببقاء، كذلك جاز أن يكون ذات بنفس. «لما قضى الله الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي تغلب غضبي»
والجواب: أن مسمى الحياة والبقاء هو الصفة، وأما [ ص: 462 ] مسمى النفس هو الموصوف نفسه، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ النفس يراد به صفة موصوف لا في ذكر الخالق ولا في ذكر المخلوق، كما قال تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [الزمر: 42] وقال: كل نفس ذائقة الموت [آل عمران: 185] وقال: إن النفس لأمارة بالسوء [يوسف: 53] وقال: ولا أقسم بالنفس اللوامة [القيامة: 2] وقال: يا أيتها النفس المطمئنة [الفجر: 27] وقال: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم [البقرة: 54] وقال: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا [النور: 12] وأضعاف ذلك في الحديث، ليس المراد به أن نفس الشيء صفة له.
فمن حمل قوله: أنه صفة من صفاته فقد حمل على غير لغة العرب التي أنزل الله بها كتابه، وهذا خلاف نص القرآن وظاهره، فضلا عن أن يقال: هو ظاهره، وأيضا فإنهم يؤكدون بها فيقولون: رأيت زيدا عينه. «على نفسه»
نعم يوجد في كلام بعض المولدين [ ص: 463 ] ما يشبه أن يكون لفظ النفس صفة كما يقولون: فلان له نفس، وفلان ليس له نفس، واترك نفسك وتعال، ونفسك وحجابك، ونحو ذلك، فإن مقصودهم الصفات المذمومة كالأهواء المتبعة من الشهوة والغضب ونحو ذلك، وهذا ليس من اللغة التي يجوز حمل كلام الله ورسوله عليها؛ إذ مثل هذا لا يوجد إلا في كلام المتأخرين، وذلك والله أعلم أن هذا مثل قولهم: فلان له يد وله لسان، أي: يد باطشة ولسان ناطق، فيطلقون اسم الذات ويريدون به الصفة المشهورة فيها، فقول القائل: اترك نفسك، أو: له نفس، ونحو ذلك، يريد به الذات على الصفة المخصوصة وهي الصفة المذمومة، كما يقال: أمسك لسانك واكفف يدك، أو: له لسان، وله يد.
وهذا يستعملونه في النفي كما يستعملونه في الإثبات، فينفون الشيء لانتفاء الصفة المشهورة فيه، كما يقال: فلان ليس له [ ص: 464 ] لسان، أي: لا يحسن أن يتكلم، ولا يد له في هذا، أو: هو عاجز عن عمل، هذا كما يقولون: فلان ليس بإنسان؛ لانتفاء الصفات المعروفة في الإنسان عنه، وهكذا لفظ النفس، قد يقولون: لا نفس له؛ لانتفاء الهوى والغضب، وقد يجعلون ذلك حمدا إذا انتفى المذموم منه، وقد يذمونه بذلك إذا انتفى فيه الجهة المحمودة، فيقال: ليس له نفس، بهذا الاعتبار.
وإذا كان كذلك فمعلوم أن مثل هذا في الإثبات إنما يراد به إثبات الذات الموصوفة بصفات النفس، لا يراد به مجرد صفة، فعلم أن اسم النفس إنما هو اسم لذات الشيء الموصوفة.
قالوا: قوله: واصطنعتك لنفسي [طه: 41] المراد به الله الذي له النفس، فكذلك قولكم: ويحذركم الله نفسه [آل عمران 28 ، 30] المراد به الله الذي له النفس.
فيقال لهم: هذا لو كان صحيحا لكان تأويلا، وهو من أضعف التأويلات، فكيف تبطلون التأويل بمثل هذا التأويل، وأيضا فإن اللفظ لا يحتمل ذلك في لغة العرب بوجه من الوجوه، وأيضا فإن ذلك عدول عن مدلول اللفظ ومقتضاه بغير موجب [ ص: 465 ] أصلا، وذلك من تحريف الكلم عن مواضعه.