تنبيهات
الأول : قال العلماء رحمهم الله تعالى وتجعله عرضة للآفات كما يشاهد من حال أصحابنا ، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد ، بل وسطا بين ذلك . لم تكن عمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالكبيرة ، التي تؤذي صاحبها ، وتضعفه ،
قال الحافظ رحمه الله تعالى في فتاويه : لا يحضرني في طول عمامة النبي صلى الله عليه وسلم قدر محدود ، وقد سئل عنه الحافظ عبد الغني فلم يذكر شيئا في فتاويه .
وقال الشيخ رحمه الله تعالى في ذلك لم يثبت في مقدار العمامة الشريفة حديث ، ثم أورد الحديث السالف أول الباب ، ثم قال : وهذا يدل على أنها عدة أذرع ، والظاهر أنها كانت نحو العشرة أو فوقها بيسير .
وقال الحافظ أبو الخير السخاوي رحمه الله تعالى في فتاويه : رأيت من نسب لعائشة رضي الله تعالى عنها أن عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر كانت بيضاء ، وفي الحضر كانت سوداء ، وكل منهما سبعة أذرع .
قال السخاوي : وهذا شيء ما علمناه .
قال ابن الحاج في المدخل : وردت السنة بالرداء والعمامة والعذبة ، وكان الرداء أربعة أذرع ونصف ، ونحوها ، والعمامة سبعة أذرع ونحوها ، يخرجون منها التلحية والعذبة ، والباقي عمامة على ما نقله المطري في كتابه .
الثاني : قال في زاد المعاد : وكان إذا اعتم أرخى طرف عمامته بين كتفيه ، كما في حديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة بغير قلنسوة ، وفي حديث عمرو بن حريث ، السابق رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة ، وعليه عمامة سوداء ، ولم يذكر في حديثه الذؤابة ، فدل على أن العذبة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه ، قال وقد يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل جابر مكة وعليه أهبة القتال ، والمغفر على رأسه ، فلبس في كل موطن ما يناسبه ، قلت : لم يستحضر رحمه الله تعالى أن رحمه الله تعالى رواه- وزاد- النسائي قد أرخى طرف العذبة بين كتفيه ، كما تقدم ، ولا مخالفة بين هذا الحديث ، وحديث عن البخاري رضي الله تعالى عنه أنس مكة عام الفتح ، وعلى رأسه المغفر ، لاحتمال أن يكون وقت دخوله كان على رأسه المغفر ، ثم أزاله ، ولبس العمامة بعد ذلك ، فحكى كل منهما ما رآه ، ويؤيده أن في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل رضي الله تعالى عنه أنه خطب عند باب الكعبة ، وذلك بعد تمام دخوله ، قال القاضي وقال غيره يجمع ، بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر ، وقاية لرأسه من صدإ الحديد . [ ص: 277 ] عمرو بن حريث
الثالث :
قال في زاد المعاد أيضا كان شيخنا أبو العباس في تيهته رحمه الله تعالى يذكر في سبب الذؤابة شيئا بديعا ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه بالمدينة ، لما رأى رب العزة تبارك وتعالى فقال : الحديث . «يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري ، فوضع يده بين كتفي فعلمت ما بين السماء والأرض»
رواه الترمذي ،
وقال إنه سأل عنه فصححه ، قال البخاري أبو العباس رحمه الله تعالى :
فمن تلك الغداة أرخى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذؤابة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم ، وهذا من العلم الذي تنكره ألسنة الجهال وقلوبهم ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ولم أر هذه الفائدة في شأن الذؤابة لغيره ، وقال الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه الله تعالى : لم نجد لما ذكره أصلا .
وقال الحافظ أبو ذرعة بن الحافظ أبي الفضل العراقي رحمهما الله تعالى في تذكرته بعد أن ساق ما تقدم عن ابن تيمية ، إن ثبت ذلك فهو وصفه ، وليس يلزم منه التجسيم ، لأن الكف يقال فيه ما قاله أهل الحق في اليد ، فهم ما بين متأول وساكت عن التأويل ، مع نفي الظاهر ، كيفما كان فهو نعمة عظيمة ، ومنة جسيمة ، حلت بين كتفيه فقابلها بإكرام ذلك المحل الذي حطت فيه تلك النعمة ، والمراد بالذؤابة ههنا القامة لموافقة الحديث الذي قبله وأكثر اشتهارها على شعر الرأس ، وقد تطلق على المتدلي من غيره .
الرابع : قال شيخ الإسلام كمال الدين بن أبي شريف رحمه الله تعالى في كتابه صوبة الغمامة ، في إرساله طرف العمامة : إسبال طرف العمامة مستحب مرجح فعله على تركه ، كما يؤخذ من الأحاديث السابقة خلافا لما أوهمه كلام النووي رحمه الله تعالى من إباحته بمعنى استواء الطرفين .
قال الإمام النووي في شرح المهذب : يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها ، بغير إرساله ، ولا كراهة في واحد منهما ، وذكر معناه في الروضة باختصار .
قال في شرح المهذب : ولم يصح في النهي عن ترك الإرسال شيء ، وذكر أنه صح في الإرخاء حديث رضي الله تعالى عنه أي السابق- هذا كلام الإمام عمرو بن حريث النووي رحمه الله تعالى . قال ابن أبي شريف رحمه الله تعالى : ولم أر من تعقبه ، ويمكن أن يقال قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنه بإرخاء طرف العمامة ، وعلله صلى الله عليه وسلم لأنه أعرب وأحسن ، فهو مستحب وأولى ، وتركه خلاف الأولى والمستحب . والظاهر أن الإمام النووي أراد بالمكروه ما ورد فيه نهي مقصود ، وليس الترك مكروها بهذا المعنى ، ولا يمتنع كون الإرسال أولى أو مستحبا ، وأما إن أراد بالمكروه ما يتناول خلاف الأولى ، كما هو اصطلاح متقدمي الأصوليين ، فلا نسلم كون الترك غير مكروه بهذا المعنى بل هو مكروه . [ ص: 278 ] عبد الرحمن بن عوف
بمعنى أنه خلاف الأولى كما بيناه .
الخامس :
قال صاحب القاموس رحمه الله تعالى في شرح كما نقل عنه أنه قال فيه : البخاري كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عذبة طويلة نازلة بين كتفيه ، وتارة على كتفيه ، وأنه ما فارق العذبة قط ، وأنه قال : «خالفوا اليهود ولا تصمموا فإن تصميم العمائم من زي أهل الكتاب» ، وأنه قال : «أعوذ بالله من عمامة صماء» ،
قال الشيخ رحمه الله تعالى في فتاويه التي بخط الشيخ عبد الجبار رحمه الله تعالى قوله : طويلة لم أره ، لكن يمكن أن يؤخذ من أحاديث إرخائها بين الكتفين ، وقوله : بين ، وتارة على كتفه لم أقف عليه من لبسه ، لكن من إلباسه ، أي كما سيأتي في تعميمه عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه ، وعليا رضي الله تعالى عنه ، وأما حديث خالفوا اليهود إلخ ، وحديث أعوذ بالله من عمامة صماء ، فلا أصل لهما .
قال الشيخ في الفتاوى المذكورة : من العلم أن العذبة سنة وتركها استنكافا عنها إثم ، أو غير مستنكف فلا .
السادس : اختلف في مكان العذبة على أقوال :
الأول : إرسالها من بين يديه ، ومن خلفه .
روى بسند ضعيف عن الطبراني رضي الله تعالى عنه ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه .
وروى أبو موسى المدني بسند ضعيف عن الحسن بن صالح ، قال : أخبرني من رأى عمامة رضي الله تعالى عنه ، قد أرخاها من بين يديه ومن خلفه . علي بن أبي طالب
وروى بسند ضعيف عن أبو داود ابن خيربوذ قال : حدثنا شيخ من أهل المدينة قال :
سمعت رضي الله تعالى عنه يقول : عبد الرحمن بن عوف عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يدي ، ومن خلفي .
وورد من عدة طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمم عبد الرحمن بن عوف أرسل العذبة من خلفه .
وروى ابن سعد بسند ضعيف من طريق أبي أسد بن كريب عن أبيه قال : رأيت رضي الله تعالى عنهما يعتم فيرخي من عمامته شبرا بين كتفيه ، ومن بين يديه . ابن عباس
وروى أبو موسى المدني عن محمد بن قيس قال : رأيت رضي الله تعالى عنهما يعتم بعمامة قد أرسلها بين يديه ومن خلفه ، فلا أدري أيهما أطول . ابن عمر
قال رحمه الله تعالى : إنه لم ير أحدا ممن أدركه يرخيها بين كتفيه إلا بين [ ص: 279 ] الإمام مالك
يديه ، ونقله ابن الحاج في المدخل ، وهذا يدل على أن عمل التابعين على إرسال العذبة من بين أيديهم .
قال أبو عبد الله بن الحاج في المدخل : والعجب من قول بعض المتأخرين إن إرسال الذؤابة بين اليدين بدعة ، مع وجود هذه النصوص الصحيحة الصريحة من الأئمة المتقدمين عن السلف ، فيكون هو قد أصاب السنة ، وهم قد أخطئوها وابتدعوا ، وتوقف بعض الحفاظ في جعلها من قدام لكونها من سنة أهل الكتاب ، وهدينا مخالف لهديهم وقولهم : بين يديه ، ومن خلفه : يحتمل أن يكون بالنظر لطرفيها حيث يجعل أحدهما خلفه والآخر بين يديه ويحتمل أنه إرسال الطرف الواحد بين يديه ، ثم رده من خلفه بحيث يكون الطرف الواحد بعضه بين يديه ، وبعضه خلفه ، كما يفعله كثيرون ، ويحتمل أن يكون فعل كل واحد منهما في مرة ، وقد تكون العذبة من طرف العمامة ، أو من غيرها ، ويغرزها فيها ، فقد نقل الحافظ أبو الخير السخاوي رحمه الله تعالى في فتاويه أن بعضهم نسب إلى رضي الله تعالى عنها قالت : عائشة
كانت العذبة في السفر من غير العمامة وفي الحضر منها ، قال السخاوي : وهذا شيء ما علمناه .
الثاني : إرسالها من الجانب الأيمن .
روى بسند ضعيف عن الطبراني رضي الله تعالى عنه قال : أبي أمامة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يولي واليا حتى يعممه بعمامة ، ويرخي لها عذبة من الجانب الأيمن نحو الأذن .
الثالث : إرسالها من الجانب الأيسر ، وعليه عمل كثير من السادات الصوفية ، لما قام عندهم في ذلك .
روى بسند حسن ، الطبراني رحمه الله تعالى في صحيحه عن والضياء المقدسي رضي الله تعالى عنه قال : عبد الله بن بسر أو قال : على كتفه اليسرى ، لكن راويه تردد وما جزم بالثاني . بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء ، ثم أرسلها من ورائه ،
وسئل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مسند الصوفية في إرخاء العذبة على الشمال فقال : لا يلزمهم بيانه ، لأن هذا من جملة الأمور المباحة ، فمن اصطلح على شيء منها لم يمنع منه ، ولا سيما إذا كان شعارا لهم انتهى .
الرابع : إرسالها خلف ظهره بين كتفيه ، وهو الأكثر الأشهر الصحيح على تقدير صحته [ ص: 280 ]
بأنه لم يرخ العذبة بين الكتفين ، بل يقدمها إلى جهة الكتف اليمنى أو اليسرى ، وقولهم : بين كتفيه : المراد به إرسالها من خلف لا من قدام ، ويستحب إرخاء العذبة للصلاة ، ويكره تركها .
وندر تركه سدل العذبة في العمامة حال الصلاة .