[ ص: 281 ] جماع أبواب بعض فضائل المدينة الشريفة  
الباب الأول في بدء شأنها 
عن  عائشة  رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  "مكة  بلد عظمه الله ، وعظم حرمته ، خلق مكة  وحفها بالملائكة قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألف عام ، ووصلها بالمدينة ،  ووصل المدينة  ببيت المقدس ،  ثم خلق الأرض كلها بعد ألف عام خلقا واحدا"  . 
وعن  علي  رضي الله عنه : قال :  "كانت الأرض ماء فبعث الله ريحا فمسحت الأرض مسحا فظهرت على الأرض زبدة فقسمها أربع قطع ، خلق من قطعة مكة  والثانية المدينة  والثالثة بيت المقدس  والرابعة الكوفة"   . 
رواهما الحافظ أبو بكر بن أحمد بن محمد الواسطي الخطيب  في كتابه "فضائل بيت المقدس"  بسند لا بأس به خلافا لقول السيد إنهما واهيان ، فإني لم أجد في سندهما من تكلم فيه سوى  ابن لهيعة  وهو صدوق اختلط بأخرة ،  والترمذي  يحسن له . 
وروى  الطبراني  عن ذي مخبر ،  وهو بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الموحدة ، وقيل بدلها ميم ، وهو ابن أخي  النجاشي  رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل اطلع إلى أهل المدينة  وهي بطحاء قبل أن تعمر ، ليس فيها مدرة ولا وبرة ، فقال : 
"يا أهل يثرب  إني مشترط عليكم ثلاثا ، وسائق إليكم من كل الثمرات : لا تعصي ولا تعلي ولا تكبري ، فإن فعلت شيئا من ذلك تركتك كالجزور لا يمنع من أكله"  . 
وقيل : أول من عمر بها الدور والآطام ، وزرع وغرس ، العماليق بنو عملاق بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وأخذوا ما بين البحرين  وعمان  والحجاز  إلى الشام  ومصر ،  ومنهم الجبابرة والفراعنة . 
وقال أبو المنذر الشرقي بن القطامي :  سمعت حديث تأسيس المدينة  من سليمان بن عبد الله بن حنظلة الغسيل ،  وسمعت أيضا بعض ذلك من رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن عمار بن ياسر ،  فجمعت حديثهما لكثرة اتفاقه وقلة اختلافه ، قالا : "بلغنا أنه لما حج موسى  صلوات الله عليه حج معه أناس من بني إسرائيل ، فلما كان في انصرافهم أتوا على  [ ص: 282 ] المدينة ،  فرأوا موضعها صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيين ، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به ، فنزلوا في موضع سوق بني قينقاع ، ثم تألفت إليهم أناس من العرب فرجعوا إلى دينهم ، فكانوا أول من سكن موضع المدينة .  ويذكر أن قوما من العمالقة سكنوه قبلهم . 
وروى  أبو نعيم   وابن عساكر  عن  أبي هريرة  رضي الله عنه قال :  "بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بختنصر  عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا ، وكانوا يجدون محمدا  صلى الله عليه وسلم منعوتا في كتابهم ، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل ، ولما خرجوا من أرض الشام  كانوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام  واليمن  يجدون نعتها نعت يثرب ، فينزل بها طائفة منهم يرجون أن يلقوا محمدا  فيتبعونه حتى نزل طائفة من بني هارون  ممن حمل التوراة إلى يثرب ، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمد  صلى الله عليه وسلم ، ويحثون أبناءهم على اتباعه ، فأدركه من أدركه من أبنائهم ، فكفروا به وهم يعرفونه؛ لحسدهم الأنصار حيث سبقوهم إليه . 
وروى  الزبير بن بكار  عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي  وغيره من أهل المدينة  قالوا : 
"كان بالمدينة  في سالف الزمان قوم يقال لهم : صعل وفالج ، فغزاهم داود  النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ منهم مائة ألف عذراء ، قالوا : وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا . ولم تزل اليهود ظاهرين على المدينة  حتى كان سيل العرم . قال المفسرون : كانت أرض سبأ  المعنية بقوله تعالى : بلدة طيبة ورب غفور   [سبأ 15] أخصب بلاد الله ، لم تكن سبخة وقيل : لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب . ولا حية ، ويمر الغريب بواديهم وفي ثيابه القمل فيموت ، وتخرج المرأة وعلى رأسها مكتلها فتعمل بمغزلها وتسير بين ذلك الشجر فيمتلئ مما يتساقط من الثمر ، وكان طول بلدهم أكثر من شهرين للراكب المجد وكذلك عرضها ، وأهلها في غاية الكثرة مع اجتماع الكلمة والقوة . وكانوا كما قص الله تعالى من خبرهم بقوله : وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة   [سبأ 18] أي يرى بعضها من بعض لتقاربها ، فكانوا آمنين في بلادهم ، تخرج المرأة لا تتزود شيئا تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام .  فبطروا النعمة فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا   [سبأ : 19] ، أي بمفاوز بينهم وبين الشام يركبون فيها الرواحل ، فعجل الله لهم الإجابة كما قال تعالى : فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق   [سبأ 19] . 
"وكانوا يقتتلون على ماء واديهم ، فأمرت بلقيس  بواديهم فسد بالعرم ، وهو المسناة بلغة حمير ، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار ، وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض ، وبنت من  [ ص: 283 ] 
دونه بركة ضخمة ، وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهار يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء ، وإذا استغنوا سدوها ، فإذا جاء ماء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد ، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة ، فكانوا يستقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث فلا ينفد الماء حتى يرجع الماء من السنة المقبلة ، فكان السيل يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يستقر في واديهم فيجتمع الماء من تلك السيول والجبال في ذلك الوادي . وكان السد فرسخا في فرسخ ، بناه لقمان  الأكبر العادي ، وقيل سبأ بن يشجب ،  ومات قبل إكماله فأكمله ملوك حمير .  
"وكان أولاد حمير بن سبأ  وأولاد كهلان بن سبأ  سادة اليمن  في ذلك الزمان ، وكان كبيرهم عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء ،  وكانت زوجة عمرو  يقال لها طريفة ، من حمير  وكانت كاهنة ، فولدت له ثلاثة عشر ولدا : ثعلبة  أبو الأوس والخزرج ، وحارثة  والد خزاعة ، وجفنة  والدغسان-  وقيل فيهم غير ذلك- وولدت له وداعة  وأبا حارثة  والحارث  وعوفا  وكعبا  ومالكا  وعمرانا .  هؤلاء أعقبوا كلهم ، والثلاثة الباقون لم يعقبوا . وكان لعمرو مزيقياء  من القصور والأموال ما لم يكن لأحد ، فرأى أخوه عمران   - وكان كاهنا - أن قومه سيمزقون وتخرب بلادهم ، فذكره لعمرو .  ثم أن طريفة الكاهنة سجعت له بما يدل على ذلك فقال : وما علامته؟ قالت : 
إذا رأيت جرذا يكثر في السد الحفر ، ويقلب منه بيديه الصخر [فاعلم أن قد وقع الأمر] . 
"فلما غضب الله تعالى عليهم وأذن في هلاكهم ، دخل عمرو بن عامر  فرأى جرذا تنقل أولادها من بطن الوادي إلى أعلى الجبل فقال : ما نقلت هذه أولادها من ههنا إلا وقد حضر أهل هذه البلاد عذاب ، فخرقت ذلك العرم فنقبت نقبا ، فسال الماء من ذلك النقب إلى جنبه ، فأمر بذلك النقب فسد ، فأصبح وقد انفجر بأعظم مما كان ، فأمر به أيضا فسد ، ثم انفجر بأعظم مما كان ، فلم يترك فرجة بين حجرين إلا أمر بربط هرة عندها ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وكان الجرذ يقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلبها خمسون رجلا . فلما رأى ذلك دعا ابن أخيه فقال : إذا جلست العشية في نادي قومي فائتني فقل : علام تجلس على مالي؟ فإني سأقول لك : ليس لك عندي مال ولا ترك أبوك شيئا وإنك كاذب . فإن كذبتك فكذبني واردد علي مثل ما قلت لك ، فإذا فعلت ذلك فإني سأشتمك إذا أنت شتمتني ، وإن أنا لطمتك فالطمني . قال : ما كنت لأستقبلك بذلك يا عم . قال : بلى فافعل فإني أريد بذلك صلاحك وصلاح أهل بيتك . فقال الفتى : نعم ، حيث عرف رأي عمرو .  فجاء ، فقال ما أمره به حتى لطمه ، فتناول الفتى عمه فلطمه . فقال الشيخ : "يا معشر بني فلان أألطم فيكم؟ لا سكنت في بلد لطمني فيه فلان أبدا ، من يبتاع مني؟" فلما عرف القوم منه الجد أعطوه ، فنظر إلى أفضلهم عطية فأوجب له البيع .  [ ص: 284 ] 
فدعا بالمال ، فنقده ، . وتحمل هو وبنوه من ليلته ، وفي رواية : إن الثمن لما صار في يده قال : 
أي قوم ، إن العذاب قد أظلكم ، وزوال أمركم قد دنا ، فمن أراد منكم منزلا جديدا وجملا شديدا وسفرا بعيدا فليلحق بعمان ، ومن أراد منكم الخمر والخمير والديباج والحرير ، والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير ، ومن أراد منكم الراسخات في الوحل المطعمات في المحل ، المقيمات في الضحل فليلحق بيثرب ذات النخل ، فخرج أهل عمان  إلى عمان ،  وخرجت غسان إلى بصرى ، وخرجت الأوس والخزرج وبنو كعب بن عمرو إلى يثرب ،  فلما كانوا ببطن مر قال بنو كعب : هذا مكان صالح لا نبغي به بدلا ، فلذلك سموا خزاعة؛ لأنهم انخزعوا عن أصحابهم ، وأقبلت الأوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب"   . 
"ولما أراد الله ما أراد من تفريق من بقي وخراب بلادهم ، أقبلت فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة ، فدخلت الفأرة في الفرجة التي كانت عندها ، فتغلغلت بالسد ، فحفرت فيه حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون ، فلما جاء السيل وجد خلاء فدخل فيه حتى قلع السد وفاض من الماء على الأموال فاحتملها ، فلم يبق منها إلا ما ذكر الله تعالى" . 
"ولما قدمت الأوس والخزرج المدينة  تفرقوا في عاليتها وسافلتها ، ومنهم من نزل مع بني إسرائيل في قراهم ، ومنهم من نزل وحده لا مع بني إسرائيل ولا مع العرب الذين تألفوا إلى بني إسرائيل ، وكانت الثروة في بني إسرائيل ، ولهم قرى عمروا بها الآطام . فمكثت الأوس والخزرج ما شاء الله ، ثم سألوا اليهود في أن يعقدوا بينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض ، ويمتنعون به ممن سواهم ، فتحالفوا وتعاقدوا واشتركوا وتعاملوا ، فلم يزالوا على ذلك زمانا طويلا ، وأمرت الأوس والخزرج ، وصار لهم مال وعدد ، فخافت قريظة والنضير أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم ، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم ، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن يجليهم يهود ، حتى نجم منهم مالك بن العجلان ،  أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج ،  وسوده الحيان : الأوس والخزرج" . 
"وكان ملك اليهود الفطيون شرط ألا تهدى عروس إلى زوجها حتى تدخل عليه ، فلما سكن الأوس والخزرج المدينة ، أراد أن يسير فيهم بتلك السيرة . فتزوجت أخت مالك بن العجلان  رجلا من بني سالم ، فأرسل الفطيون رسولا في ذلك ، وكان مالك غائبا ، فخرجت أخته في طلبه ، فمرت به في قوم ، فنادته ، فقال : لقد جئت بسبة ، تناديني ولا تستحي؟ فقالت : 
إن الذي يراد بي أكبر ، فأخبرته . فقال لها : أكفيك ذلك . فقالت : وكيف؟ فقال : أتزيى بزي النساء وأدخل معك عليه بالسيف ، فأقتله . ففعل . ثم خرج حتى قدم الشام  على أبي جبيلة .   [ ص: 285 ] 
وكان نزلها حين نزلوا هم بالمدينة ،  فجيش جيشا عظيما وأقبل كأنه يريد اليمن ،  واختفى معهم مالك بن العجلان ،  فجاء فنزل بذي حرض ، وأرسل إلى أهل المدينة  من الأوس والخزرج فأتوا إليه ، فوصلهم ثم أرسل إلى بني إسرائيل وقال : من أراد الحباء من الملك فليخرج إليه ، مخافة أن يتحصنوا في الحصون فلا يقدر عليهم ، فخرج إليه أشرافهم ، فأمر لهم بطعام حتى اجتمعوا فقتلهم ، فصار الأوس والخزرج أعز أهل المدينة"   . 
تنبيه : في بيان غريب ما سبق 
"حفها" : أحدق بها . 
"الزبدة" : بفتحتين : الرغوة . 
"البطحاء" : الأرض المتسعة . 
"مدرة" : جمعها مدر ، مثل قصبة وقصب ، قال الأزهري :  المدر قطع الطين . 
"المكتل" : بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثناة الفوقية : الزنبيل . 
"صعل" : بصاد فعين مهملتين فلام . 
"فالج" : بالجيم . 
"المسناة" : حائط يبنى في وجه الماء ويسمى السد . 
"العرم" : جمع عرمة . 
"السكر" : بفتح السين المهملة وسكون الكاف : أي السد الذي يحبس الماء ، قال ابن الأعرابي : السيل الذي لا يطاق ، وقيل العرم : الوادي ، وأصله من العرامة : وهي الشدة والقوة . 
"الضحل" : بالضاد المعجمة والحاء المهملة الساكنة : القليل من الماء ، وقيل : الماء القريب : 
"الفطيون" : [بكسر الفاء وإسكان الطاء المهملة ثم مثناة تحتية مفتوحة وواو ساكنة فنون . 
والفطيون هو الذي تملك بيثرب] .  [ ص: 286 ] 
				
						
						
