وما مثله ممن يجاود حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره
لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود . ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله : النصـارى ولن ترضى عنك اليهود ولا - حتى يعترف بالفرق البين . انتهى كلامه .
إنما يكون بالسمع ، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل ، وأما الآية فقد يقال : متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول ، ولا أن ذلك من باب الترقي . ( فإذا قلت ) : لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمرو ، فلا دلالة فيه على أن عمرا أفضل من زيد . وإن سلمنا ذلك فليست [ ص: 404 ] الآية من هذا القبيل ، لأنه قابل مفردا بجمع ، ولم يقابل مفردا بمفرد ولا جمعا بجمع . فقد يقال : الجمع أفضل من المفرد ، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع ، ولا المفرد على المفرد . وإن سلمنا أن المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه ، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه ، حتى إنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية ، ولا يدل تخيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثوابا ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهن حسن والتفضيل بين الأنبياء والملائكة يوسف : ( فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) وقال الشاعر :
فلست بإنسي ولكن لملأك تنزل من جوف السماء يصوب
وقال : ( فإن قلت ) : علام عطف الزمخشري ولا الملائكة المقربون ؟ ( قلت ) : إما أن يعطف على المسيح ، أو على اسم ( يكون ) أو على المستتر في عبدا لما فيه من معنى الوصف ، لدلالته على معنى العبادة ، وقولك : مررت برجل عبد أبوه ، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية ، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه . انتهى . والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه هو كون الاستنكاف يكون مختصا بالمسيح ، والمعنى القائم اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية ، لأنه لا يلزم من استنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيدا ، أو أن يكون هو وهم يعبد ربه - استنكافهم هم ، فقد يرضى شخص أن يضرب هو وزيد عمرا ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضا مرجوحيـة الوجهين من جهة دخول لا ، إذ لو أريد العطف على الضمير في يكون ، أو على المستتر في عبدا ; لم تدخل لا ، بل كان يكون التركيب بدونها تقول : ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين ، وتقول : ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو ، فهذان ونحوهما ليسا من مظنات دخول لا ، فإن وجد من لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة .
( ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ) حمل أولا على لفظ ( من ) فأفرد الضمير في ( يستنكف ) ( ويستكبر ) ، ثم حمل على المعنى في قوله : فسيحشرهم ، فالضمير عائد على معنى ( من ) هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يكون الضمير عاما عائدا على الخلق لدلالة المعنى عليه ، لأن الحشر ليس مختصا بالمستنكف ، ولأن التفصيل بعده يدل عليه . ويكون ربط الجملة الواقعة جوابا [ ص: 405 ] لاسم الشرط بالعموم الذي فيها ، ويحتمل أن يعود الضمير على معنى ( من ) ، ويكون قد حذف معطوف عليه لمقابلته إياه ; التقدير : فسيحشرهم ومن لم يستنكف إليه جميعا كقوله : سرابيل تقيكم الحر أي : والبرد . وعلى هذين الاحتمالين يكون ما فصل بإما مطابقا لما قبله ، وعلى الوجه الأول لا يطابق . والإخبار بالحشر إليه وعيد ، إذ المعني به الجمع يوم القيامة حيث يذل المستنكف المستكبر . وقرأ الحسن : بالنون بدل الياء في فسيحشرهم ، وباء فيعذبهم على التخفيف . ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) أي : لا يبخس أحدا قليلا ولا كثيرا ، والزيادة يحتمل أن يكون في أن الحسنة بعشر إلى سبعمائة ، والتضعيف الذي ليس بمحصور في قوله : ( والله يضاعف لمن يشاء ) . قال معناه ابن عطية ، رحمه الله تعالى ، ( وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) هذا وعيد شديد للذين يتركون عبادة الله أنفة تكبرا . وقال ابن عطية : وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء وما جرى مجراه كفعل حيـي بن أخطب وأخيه أبي ياسر وأبي جهل وغيرهم بالرسول ، فإذا فرضت أحدا من البشر عرف الله فمحال أن تجده يكفر به تكبرا عليه ، والعناد إنما يسوق إليه الاستكبار على البشر ، ومع تفاوت المنازل في ظن المستكبر . انتهى . وقدم ذكر ثواب المؤمن لأن الإحسان إليه مما يعم المستنكف إذا كان داخلا في جملة التنكيل به ، فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحشر إذا رأى أجور العاملين ، وبما يصيبه من عذاب الله تعالى .