نقب في الجبل والحائط فتح فيه ما كان منسدا ، والتنقيب التفتيش ، ومنه ( فنقبوا في البلاد ) ونقب على القوم ينقب إذا صار نقيبا ; أي : يفتش عن أحوالهم وأسرارهم ، وهي النقابة . والنقاب الرجل العظيم ، والنقب الجرب واحده النقبة ، ويجمع أيضا على نقب على وزن ظلم ، [ ص: 443 ] وهو القياس . وقال الشاعر :
متبذلا تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب
أي الجرب . والنقبة سراويل بلا رجلين ، والمناقب الفضائل التي تظهر بالتنقيب . وفلانة حسنة النقبة والنقاب : أي جميلة ، والظاهر أن النقيب فعيل للمبالغة كعليم . وقال أبو مسلم : بمعنى مفعول ، يعني أنهم اختاروه على علم منهم . وقال الأصم : هو المنظور إليه المسند إليه الأمر والتدبير . عزر الرجل ، قال : أثنى عليه بخير . وقال يونس بن حبيب أبو عبيدة : عظمه . وقال الفراء : رده عن الظلم : ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبيح . قال القطامي :
ألا بكرت مي بغير سفاهة تعاتب والمودود ينفعه العزر
أي : المنع . وقال آخر في معنى التعظيم :
وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي
وعلى هذه النقول يكون من باب المشترك . وجعله من باب المتواطئ قال : عزرتموه نصرتموه ومنعتموه من أيدي العدو ، ومنه التعزير وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد ، وهو قول الزمخشري ، قال : التعزير الردع ، عزرت فلانا : فعلت به ما يردعه عن القبيح ، مثل نكلت به . فعلى هذا يكون تأويل عزرتموهم رددتم عنهم أعداءهم . انتهى . ولا يصح إلا إن كان الأصل في عزرتموهم ; أي : عزرتم بهم . الزجاج
طلع الشيء : برز وظهر ، واطلع : افتعل منه . غرا بالشيء غراء وغرا : لصق به وهو الغرى الذي يلصق به . وأغرى فلان زيدا بعمرو ولعه به ، وأغريت الكلب بالصيد : أشليته . وقال النضر : أغرى بينهم : هيج . وقال مورج : حرش بعضهم على بعض . وقال : ألصق بهم . الصنع : العمل . الفترة : هي الانقطاع ، فتر الوحي : أي انقطع . والفترة السكون بعد الحركة في الأجرام ، ويستعار للمعاني ; قال الشاعر : الزجاج
وإنـي لتعـرونـي لـذكـراك فـتـرة
والهاء فيه ليست للمرة الواحدة ، بل فترة مرادف للفتور . ويقال : طرف فاتر إذا كان ساجيا . الجبار : فعال من الجبر ، كأنه لقوته وبطشه يجبر الناس على ما يختارونه . والجبارة النخلة العالية التي لا تنال بيد ، واسم الجنس جبار ; قال الشاعر :
سوابق جبار أثيث فروعه وعالين قنوانا من البسر أحمرا
التيه في اللغة : الحيرة ، يقال منه : تاه ، يتيه ، ويتوه ، وتوهته ، والتاء أكثر ، والأرض التوهاء : التي لا يهتدى فيها ، وأرض تيه . وقال ابن عطية : التيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصود . الأسى : الحزن ، يقال منه : أسى يأسى . ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أمر بذكر الميثاق الذي أخذه الله على المؤمنين في قوله : ( وميثاقه الذي واثقكم به ) ثم ذكر وعده إياهم ، ثم أمرهم بذكر نعمته عليهم إذ كف أيدي الكفار عنهم ، ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم ، ووعده لهم بتكفير السيئات ، وإدخالهم الجنة ، فنقضوا الميثاق وهموا بقتل الرسول ، وحذرهم بهذه القصة أن يسلكوا سبيل بني إسرائيل هو بالإيمان والتوحيد . وبعث النقباء ، قيل : هم الملوك بعثوا فيهم يقيمون العدل ، ويأمرونهم بالمعروف ، وينهونهم عن المنكر . والنقيب : كبير القوم ، القائم بأمورهم . والمعنى في الآية : أنه عدد عليهم نعمه في أن بعث لأعدائهم هذا العدد من الملوك قاله النقاش . وقال : ما وفى منهم إلا خمسة : داود وسليمان ابنه ، وطالوت ، وحزقيل وابنه ، وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء ، وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جبارا كلهم يأخذ الملك بالسيف ، ويعبث فيهم ، والبعث : من بعث الجيوش . وقيل : هو من بعث الرسل ، وهو إرسالهم [ ص: 444 ] والنقباء الرسل جعلهم الله رسلا إلى قومهم ، كل نبي منهم إلى سبط .
وقيل : الميثاق هنا والنقباء هو ما جرى لموسى مع قومه في جهاد الجبارين ، وذلك أنه لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام ، وكان يسكنها الكفار الكنعانيون الجبابرة ، وقال لهم : إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها ، وجاهدوا من فيها ، وإني ناصركم . وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم ، فاختار النقباء ، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل ، وتكفل لهم به النقباء ، وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراما عظاما وقوة وشوكة ، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ، وقد نهاهم موسى أن يحدثوهم ، فنكثوا الميثاق ، إلا كالب بن يوقنا من سبط يهودا ، ويوشع بن نون من سبط أفراثيم بن يوسف وكانا من النقباء . وذكر محمد بن حبيب في المحبر أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها ، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا تنضبط أيضا . وذكروا من خلق هؤلاء الجبارين وعظم أجسامهم وكبر قوالبهم ما لا يثبت بوجه ، قالوا وعدد هؤلاء النقباء كان بعدد النقباء الذين اختارهم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، من السبعين رجلا والمرأتين الذين بايعوه في العقبة الثانية ، وسماهم : النقباء .
( وقال الله إني معكم ) أي : بالنصر والحياطة . وفي هذه المعية دلالة على عظم الاعتناء والنصرة ، وتحليل ما شرطه عليهم مما يأتي بعد ، وضمير الخطاب هو لبني إسرائيل جميعا . وقال الربيع : هو خطاب للنقباء ، والأول هو الراجح ; لانسحاب الأحكام التي بعد هذه الجملة على جميع بني إسرائيل .
( لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ) اللام في لئن أقمتم هي المؤذنة بالقسم والموطئة بما بعدها وبعد أداة الشرط أن يكون جوابا للقسم ، ويحتمل أن يكون القسم محذوفا ، ويحتمل أن يكون لأكفرن جوابا لقوله : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، ويكون قوله : وبعثنا والجملة التي بعده في موضع الحال ، أو يكونان جملتي اعتراض ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه . وقال : وهذا الجواب ، يعني لأكفرن ، ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا . انتهى . وليس كما ذكر ، لا يسد لأكفرن مسدهما ، بل هو جواب القسم فقط ، وجواب الشرط محذوف كما ذكرنا . والزكاة هنا مفروض من المال كان عليهم ، وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه قاله : الزمخشري ابن عطية . والأول وهو الراجح .
وآمنتم برسلي ، الإيمان بالرسل هو التصديق بجميع ما جاءوا به عن الله تعالى . وقدم الصلاة والزكاة على الإيمان تشريفا لهما ، وقد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بالإيمان قاله ابن عطية . وقال أبو عبد الله الرازي : كان اليهود مقرين بحصول الإيمان مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وكانوا مكذبين بعض الرسل ، فذكر بعدهما الإيمان بجميع الرسل ، وأنه لا تحصل نجاة إلا بالإيمان بجميعهم . انتهى ملخصا . وقرأ الحسن : برسلي ، بسكون السين ، في جميع القرآن ; وعزرتموهم . وقرأ عاصم الجحدري : وعزرتموهم ، خفيفة الزاي . وقرأ في الفتح : ( وتعزروه ) بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي ، ومصدره العزر . وأقرضتم الله قرضا حسنا : إيتاء الزكاة هو في الواجب ، وهذا القرض هو في المندوب . ونبه على الصدقات المندوبة بذكرها فيما يترتب على المجموع تشريفا وتعظيما لموقعها من النفع المتعدي . قال الفراء : ولو جاء إقراضا لكان صوابا ، أقيم الاسم هنا مقام المصدر كقوله تعالى : [ ص: 445 ] ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ) لم يقل بتقبيل ولا إنباتا . انتهى . وقد فسر هذا الإقراض بالنفقة في سبيل الله ، وبالنفقة على الأهل ، وبالزكاة . وفيه بعد ، لأنه تكرار . ووصفه بحسن إما لأنه لا يتبع بمن ولا أذى ، وإما لأنه عن طيب نفس . لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات : رتب على هذه الخمسة المشروطة تكفير السيئات ، وذلك إشارة إلى إزالة العقاب ، وإدخال الجنات ، وذلك إشارة إلى إيصال الثواب .
( فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) أي : بعد ذلك الميثاق المأخوذ والشرط المؤكد فقد أخطأ الطريق المستقيم . وسواء السبيل وسطه وقصده المؤدي إلى القصد ، وهو الذي شرعه الله . وتخصيص الكفر بتعدية أخذ الميثاق وإن كان قبله ضلالا عن الطريق المستقيم ، لأنه بعد الشرط المؤكد بالوعد الصادق الأمين العظيم أفحش وأعظم ، إذ يوجب أخذ الميثاق الإيفاء به ، لا سيما بعد هذا الوعيد عظم الكفر هو بعظم النعمة المكفورة .