وأنـت علـى أعبـاء ملكـك ذو يــد
أي ذو قدرة ، والتأييد والنصر ، يد الله مع القاضي حين يقضي ، والقاسم حين يقسم . وتأتي صلة " مما عملت أيدينا أنعاما " ; أي : مما عملنا ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) أي : الذي له عقدة النكاح . وظاهر قول اليهود إن لله يدا فإن كانوا أرادوا الجارحة فهو مناسب مذهبهم إذ هو التجسيم ، زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية ، قاعد على كرسي . وزعموا أنه فرغ من خلق السماوات والأرض يوم الجمعة ، واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى للاستراحة . ورد الله تعالى ذلك بقوله : ( ولم يعي بخلقهن ) ( وما مسنا من لغوب ) وظاهر مساق الآية يدل [ ص: 523 ] على أنهم أرادوا بغل اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود ، ومنه ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) ولا يقصد من يتكلم بهذا الكلام إثبات يد ولا غل ولا بسط ، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، كأنهما كلامان متعاقبان على حقيقة واحدة ، حتى إنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط ، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها . وقال حبيب في المعتصم :
تعود بسط الكف حتى لو انه ثناها لقبض لم تجبه أنامله
كنى بذلك عن المبالغة في الكرم . وسبب مقالة اليهود ذلك على ما قال : هو أن الله كان يبسط لهم الرزق ، فلما عصوا أمر الرسول وكفروا به كف عنهم ما كان يبسط لهم فقالوا ذلك . وقال ابن عباس قتادة : لما استقرض منهم قالوا ذلك وهو بخيل . وقيل : لما استعان بهم في الديات . وهذه الأسباب مناسبة لسياق الآية . وقال قتادة أيضا : لما أعان النصارى " بخت نصر " المجوسي على تخريب بيت المقدس ; قالت اليهود : لو كان صحيحا لمنعنا منه ، فيده مغلولة . وقال الحسن : مغلولة عن عذابهم فهي في معنى : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) وهذان القولان يدفعهما قوله : ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) . وقال الكلبي : كانوا مخصبين وقالوا ذلك عنادا واستهزاء وتهكما . انتهى . والظاهر أن قولهم : يد الله مغلولة خبر ، وأبعد من ذهب إلى أنه استفهام : أيد الله مغلولة حيث قتر المعيشة علينا ؟ وإلى أنها ممسوكة عن العطاء ذهب ، ابن عباس وقتادة ، ، والفراء وابن قتيبة ، . أو عن عذابهم إلا تحلة القسم بقدر عبادتهم العجل ; قاله والزجاج الحسن . أو إلى أن يرد علينا ملكنا . قال : غلت أيديهم خبر ، وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة . قاله الطبري الحسن : أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم ; قاله . وقال الزجاج مقاتل : أمسكت عن الخير . وقيل : هو دعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم . قال : ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم . والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره ، لأن السب أصله القطع . ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد ؟ ( قلت ) : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكدا إلى نكدهم ، وبما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم ، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم ، وتمزق أعراضهم ; . انتهى كلامه . وأخرجه جاريا على طريقة الاعتزال ; والذي يظهر أن قولهم : يد الله مغلولة ، استعارة عن إمساك الإحسان الصادر من المقهور على الإمساك . ولذلك جاءوا بلفظ مغلولة ، ولا يغل إلا المقهور ، فجاء قوله : غلت أيديهم ، دعاء عليهم بغل الأيدي ، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون ، لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي ، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم ، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضر ينزل بهم ، وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم : يد الله مغلولة ، وليست هذه المقالة بدعا منهم فقد قالوا : ( الزمخشري إن الله فقير ونحن أغنياء ) .
( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون دعاء ، وبما قالوا ; يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ، ويحتمل أن يكون عاما فيما نسبوه إلى الله مما لا يجوز نسبته إليه ، فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا . وقرأ أبو السمال : بسكون العين كما قالوا : في عصر عصر . وقال الشاعر :
لو عصـر منـه البـان والمسـك انعصـر
ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين ، فحسن التخفيف .
( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم [ ص: 524 ] ولا جارحة له ، ولا يشبه بشيء من خلقه ، ولا يكيف ، ولا يتحيز ، ولا تحله الحوادث ، وكل هذا مقرر في علم أصول الدين ; والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ ، وأضاف ذلك إلى اليدين جاريا على طريقة العرب في قولهم : فلان ينفق بكلتا يديه . ومنه قوله :
يداك يدا مجد فكف مفيدة وكف إذا ما ضن بالمال تنفق
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق ; ومن نظر في كلام العرب عرف يقينا أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل ، وقد استعملت العرب ذلك حيث لا يكون ; قال الشاعر :
جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده
وقال لبيد :
وغداة ريح قد وزعت وقرة قد أصبحت بيد الشمال زمامها
ويقال : بسط اليأس كفه في صدري ، واليأس معنى لا عين وقد جعل له كفا . قال : ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به ثم قال : ( فإن قلت ) : لم ثنيت اليد في بل يداه مبسوطتان ; وهي مفردة في يد الله مغلولة ؟ ( قلت ) : ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه ، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه ، وأن يعطيه بيديه جميعا ، فبني المجاز على ذلك . انتهى ; وكلامه في غاية الحسن . وقيل عن الزمخشري : يداه نعمتاه ، فقيل : هما مجازان عن نعمة الدين ونعمة الدنيا ، أو نعمة سلامة الأعضاء والحواس ونعمة الرزق والكفاية ، أو الظاهرة والباطنة ، أو نعمة المطر ونعمة النبات ، وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا . وقوله : ( ابن عباس لما خلقت بيدي ) و ( مما عملت أيدينا ) و ( يد الله فوق أيديهم ) و ( لتصنع على عيني ) و ( تجري بأعيننا ) و ( هالك إلا وجهه ) ونحوها . فجمهور الأمة أنها تفسر على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام .
وقال قوم منهم القاضي : هذه كلها صفات زائدة على الذات ، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تجديد . وقال قوم منهم أبو بكر بن الطيب ، الشعبي ، وابن المسيب : نؤمن بها ونقر كما نصت ، ولا نعين تفسيرها ، ولا يسبق النظر فيها . وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب ، وهذه المسألة حججها في علم أصول الدين . وقرأ والثوري عبد الله : بسيطتان ; يقال : يد بسيطة مطلقة بالمعروف . في مصحف عبد الله : بسطان ; يقال : يده بسط بالمعروف ; وهو على فعل ; كما تقول : ناقة صرح ، ومشية سجح ، " ينفق كيف يشاء " هذا تأكيد للوصف بالسخاء ، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته ، ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة ، وقال الحوفي : يجوز أن يكون خبرا بعد خبر ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في مبسوطتان . انتهى . ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على المبتدأ ، أو على ذي الحال - محذوفا ; التقدير : ينفق بهما . قال الحوفي : كيف سؤال عن حال ، وهي نصب بيشاء . انتهى . ولا يعقل هنا كونها سؤالا عن حال ، بل هي في معنى الشرط كما تقول : كيف تكون أكون ، ومفعول يشاء محذوف ، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم ، كما يدل في قولك : أقوم إن قام زيد ، على جواب الشرط ; والتقدير : ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق ، كما تقول : كيف تشاء أن أضربك [ ص: 525 ] أضربك ، ولا يجوز أن يعمل كيف ينفق لأن اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جارا ، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط . ونظير ذلك قوله : ( فيبسطه في السماء كيف يشاء ) .
( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) علق بكثير ، لأن منهم من آمن ومن لا يزداد إلا طغيانا ، وهذا إعلام للرسول بفرط عتوهم إذ كانوا ينبغي لهم أن يبادروا بالإيمان بسبب ما أخبرهم به الله تعالى على لسان رسوله من الأسرار التي يكتمونها ولا يعرفها غيرهم ، لكن رتبوا على ذلك غير مقتضاه ، وزادهم ذلك طغيانا وكفرا ، وذلك لفرط عنادهم وحسدهم . وقال : كلما نزل عليك شيء كفروا به . وقال الزجاج مقاتل : وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدماء . وقيل : المراد بالكثير ; علماء اليهود . وقيل : إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر .
( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) قيل : الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى ، لأنه جرى ذكرهم في قوله : ( لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ) ولشمول قوله : ( ياأهل الكتاب ) للفريقين ; وهذا قول الحسن ، ومجاهد . وقيل : هو عائد على اليهود ، إذ هم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة ، وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية . والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين ، فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك ، ولا يقدرون على ضررك ، ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك ، لأن الطائفتين لا تواد بينهم فيجتمعان على حربك . وفي ذلك إخبار بالمغيب ، وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيشا يهود ونصارى مذ كان الإسلام إلى هذا الوقت . وأشار إلى هذا المعنى بقوله : فكلهم أبدا مختلف وقلوبهم شتى ، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد . انتهى . والعداوة أخص من البغضاء ، لأن كل عدو مبغض ، وقد يبغض من ليس بعدو . وقال الزمخشري ابن عطية : وكأن العداوة شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس . انتهى كلامه .
( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) قال قوم : هو على [ ص: 526 ] حقيقته وليس استعارة ، وهو أن العرب كانت تتواعد للقتال ، وعلامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ، فيتبادرون والجيش يسري ليلا فيوقد من مر بهم ليلا النار فيكون إنذارا ، وهذه عادة لنا مع الروم على جزيرة الأندلس ، يكون قريبا من ديارهم ربيئة للمسلمين مستخف في جبل في غار ، فإذا خرج الكفار لحرب المسلمين أوقد نارا ، فإذا رآها ربيئة آخر قد أعد للمسلمين في قريب من ذلك الجبل أوقد نارا ، وهكذا إلى أن يصل الخبر للمسلمين في أقرب زمان ، ويعرف ذلك من أي جهة نهر من الكفار ، فيعد المسلمون للقائهم . وقيل : إذا تراءى الجمعان وتنازل العسكران أوقدوا بالليل نارا مخافة البيات ، فهذا أصل نار الحرب . وقيل : كانوا إذا تحالفوا على الجد في حربهم أوقدوا نارا وتحالفوا ، فعلى كون النار حقيقة يكون معنى إطفائها أنه ألقى الله الرعب في قلوبهم فخافوا أن يغشوا في منازلهم فيضعون ، فلما تقاعدوا عنهم أطفؤها ، وأضاف تعالى الإطفاء إليه إضافة المسبب إلى سببه الأصلي .
وقال الجمهور : هو استعارة ، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال ، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك ، وتفرق آرائهم ، وحل عزائمهم ، وتفرق كلمتهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم . فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا ، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس . وقيل : خالفوا اليهود فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم بطريق الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين . وقال قوم : هذا مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة ، والتهاب شواظ قلوبهم ، وغليان صدورهم . ومنه : الآن حمي الوطيس ; للجد في الحرب ، وفلان مسعر حرب يهيجها ببسالته ، وضرب الإطفاء مثلا لإرغام أنوفهم وخذلانهم في كل موطن . قال مجاهد : هي تبشير للرسول بأنهم كلما حاربوه نصر عليهم ، وإشارة إلى حاضريه من اليهود . وقال السدي والربيع وغيرهما : هي إخبار عن أسلافهم منذ عصور هد الله ملكهم ، فلا ترفع لهم راية إلى يوم القيامة ، ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة . وقال قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس .
( ويسعون في الأرض فسادا ) يحتمل أن يريد بالسعي نقل الأقدام ; أي : لا يكتفون في إظهار الفساد إلا بنقل أقدامهم بعضهم لبعض ، فيكون أبلغ في الاجتهاد ، والظاهر أنه يراد به العمل والفعل ; أي : يجتهدون في كيد أهل الإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم ; والأرض يجوز أن يراد بها الجنس ، أو أرض الحجاز ، فتكون " أل " فيه للعهد . قال ابن عباس ومقاتل : فسادهم بالمعاصي . وقال : بدفع الإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم . وقيل : بسفك الدماء واستحلال المحارم . وقيل : بالكفر . وقيل : بالظلم ، وكل هذه الأقوال متقاربة . الزجاج
( والله لا يحب المفسدين ) ظاهر المفسدين العموم ، فيندرج هؤلاء فيهم . وقيل : أل ، للعهد ; وهم هؤلاء . وانتفاء المحبة كناية عن كونه لا يعود عليهم بفضله وإحسانه ، فهؤلاء يثيبهم . وإذا لم يثبهم فهو معاقبهم ، إذ لا واسطة بين العقاب والثواب .