الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : وقال الله تعالى وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا مما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح تخفيفا أن ينكح بلفظ الهبة : لأن الشافعي بدأ بذكر ما خص به في النكاح تغليظا ، وذلك في ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            وجوب التخيير ، وتحريم الطلاق ، وتحريم الاستبدال بهن .

                                                                                                                                            ثم عقبه بذكر ما خص به تخفيفا ، فمن ذلك أن إباحة الله تعالى أن يملكه نكاح الحرة بلفظ الهبة من غير بدل يذكر مع العقد ، ولا يجب من بعد فيكون مخصوصا به من بين أمته من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يملك نكاح الحرة بلفظ الهبة ، ولا يجوز ذلك لغيره من أمته .

                                                                                                                                            والثاني : أن يسقط منه المهر ابتداء مع العقد ، وانتهاء فيما بعده ، وغيره من أمته يلزمه المهر فيما بعد .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إنما اختص بسقوط المهر وحده ، وهو وأمته سواء في جواز العقد بلفظ الهبة .

                                                                                                                                            وقال سعيد بن المسيب : إنما خص بسقوط المهر ، وليس له ولا لغيره من أمته أن يعقد بلفظ الهبة ، وبه قال من الصحابة أنس بن مالك ، وذهب إليه بعض أصحاب الشافعي ، والدليل على تخصيصه بالأمرين ، وإن كان للكلام مع أبو حنيفة موضع يأتي ، وقوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] والهبة تتميز بلفظها عقدا وسقوط المهر فيها بدلا ، وقد جعلها خالصة له من دون المؤمنين ، فلم يجز لأحد من أمته أن يشاركه في واحد من الحكمين .

                                                                                                                                            وفي الآية قراءتان : إحداهما : " أن وهبت " بالفتح وهو خبر عما مضى ، والقراءة الأخرى بالكسر ، وهو شروط في المستقبل ، فاختلف العلماء ، هل كان عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت له نفسها بحسب اختلافهم في هاتين القراءتين ، فمن قرأ بالكسر وجعله شرطا في المستقبل ، قال : لم يكن [ ص: 16 ] عنده امرأة موهوبة ، وبه قال مجاهد ، ومن قرأ بالفتح جعله خبرا عن ماض ، قال : قد كانت عنده امرأة وهبت له نفسها ، واختلفوا فيها على أربعة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب ، وكانت امرأة صالحة . وهذا قول عروة بن الزبير .

                                                                                                                                            والثاني : أنها خولة بنت حكيم . وهذا قول عائشة .

                                                                                                                                            والثالث : أنها ميمونة بنت الحارث . وهذا قول ابن عباس .

                                                                                                                                            والرابع : أنها زينب بنت خزيمة أم المساكين ، امرأة من الأنصار . وهذا قول الشعبي ، وإذا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم من وهبت له نفسها ، أو شرط له في المستقبل أن تقبل من وهبت له نفسها خالصة من دون المؤمنين ، كان دليلا قاطعا على من خالف .

                                                                                                                                            وروي عن سهل بن سعد الساعدي : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله قد وهبت نفسي منك ، فقال : ما لي في النساء من حاجة ، فلو لم يكن له أن يقبلها لأنكر عليها هبتها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية