الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . اعلم أن عقد النكاح بعد حضور الولي و الشاهدين ، لا يتميز إلا بثلاثة شروط :

                                                                                                                                            أحدها : تعيين المنكوحة .

                                                                                                                                            والثاني : تعيين اللفظ .

                                                                                                                                            والثالث : صفة العقد .

                                                                                                                                            [ القول في تعيين المنكوحة ]

                                                                                                                                            فأما تعيين المنكوحة ، فيجب أن يكون بما تتميز به عن غيرها ، وذلك قد يكون بأحد ثلاثة أشياء : إما بالإشارة ، وإما بالاسم ، وإما بالصفة .

                                                                                                                                            فأما الإشارة ، فلا تكون إلا إلى حاضرة ، فيقول : زوجتك هذه المرأة ، فيصح النكاح عليها ، وإن لم يذكر لها اسم ، ولها حالان : موافق ، ومخالف . فإن كان موافقا : فقد أكد بالإشارة بها قرنه بها من موافقة الاسم والنسب والصفة ، وإن كان مخالفا بأن سماها حفصة بنت زيد وهي [ ص: 157 ] عمرة بنت بكر ، أو وصفها بالطويلة وهي قصيرة ، صح العقد بالإشارة إليها ، ولم يؤثر فيه مخالفة الاسم والنسب والصفة : لأن الإشارة أبلغ في التعيين من كل اسم وصفة .

                                                                                                                                            وأما الاسم فقد يتعين به الغائبة إذا لم يشاركها فيه غيرها ، وهو في الأغلب إذا انفرد عن نسب لا يقع به التمني ، فإن قرن به النسب ، نظر : فإن لم يشاركها فيه غيرها من النساء تميزت به ، وصح العقد عليها بما تميزت به من الاسم والنسب ، وإن لم ينو الزوج والولي الإشارة إلى المنكوحة ، أو إن لم يتميز الاسم والنسب عن غيرهما من النساء لمشاركتها فيه لغيرها ، نظر : فإن نوى الزوج والولي في نفوسهما فالإشارة للمنكوحة ، صح العقد ، وعلى هذا أكثر عقود المناكح ، وإن لم ينو لم يصح العقد : لاشتباه المنكوحة بغيرها ، وصار بمثابة قوله : قد زوجتك امرأة .

                                                                                                                                            وأما الصفة : فلا تكون بانفرادها مميزة للمنكوحة عن غيرها ؛ لاشتراك الناس في الصفات ؛ حتى يقترن بها مع ما يقع به التمييز من اسم ، أو نسب ، أو نية ، مثل سودة بنت زيد بن خالد وله بنات فيهن المنكوحة .

                                                                                                                                            أما الاسم إذا لم يشتركن فيه فنقول : حفصة ، أو عمرة .

                                                                                                                                            وأما بالصفة ، إذا لم يشتركن فيها فيقول : الطويلة ، أو القصيرة ، أو يقول : السوداء أو البيضاء ، أو يقول : الصغيرة أو الكبيرة ، فتصير الصفة مميزة للمنكوحة ولولاها لاشتبهت .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك فأراد أن يزوج بنته فإن لم يكن له إلا بنت جاز أن يقول زوجتك بنتي ، ولا يذكر لها اسما ولا صفة : لأنها قد تعينت في العقد ، فصح ، فإن ذكر مع ذلك اسما أو صفة : فقال : بنتي حفصة ، أو قال : بنتي الطويلة ، فقد أكد إن وافق الاسم والصفة ، ولم يؤثر فيه إن خالف الاسم والصفة قوله : عمرة وقد سماها حفصة ، وكانت قصيرة وقد وصفها طويلة : لأن الاسم قد ينتقل ، والقصيرة قد تكون طويلة بالإضافة إلى من هي أصغر منها .

                                                                                                                                            وإن كان للأب المزوج عدة بنات ، لم يصح العقد بأن يقول : زوجتك بنتي ، حتى يميزها عن سائرهن : إما بنية يتفق الأب والزوج بها على إرادة إحداهن بعينها ، وإما باسم ، أو صفة ، فيقول : بنتي حفصة ، فيصفها بالاسم ، أو أن يقول : بنتي الصغيرة ، فتصير بالصفة متميزة ، فيصح العقد حينئذ عليها . فإن جمع بين الاسم والصفة فذلك ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون متفقا فيقول : قد زوجتك بنتي حفصة الصغيرة ، والصغيرة هي حفصة ، والكبيرة هي عمرة ، فيسمي المنكوحة باسمها ويصفها بصفتها ، فقد أكد الاسم بالصفة ، فكان أبلغ في التمييز .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون مخالفا فسمى الموصوفة بغير اسمها ، ووصف المسماة بغير صفتها : لأن حفصة هي الكبيرة ، وقد وصفها بالصغيرة ، وعمرة هي الصغيرة ، وقد وصفها بالكبيرة ، فيكون المعول على الصفة دون الاسم : لأن الصفة لازمة ، والاسم منتقل فيقع العقد [ ص: 158 ] على الصغيرة التي اسمها عمرة .

                                                                                                                                            وإن سمى في العقد حفصة ، فلو ميز المنكوحة من بناته بصفتهن ، فقال : زوجتك بنتي الصغيرة الطويلة ، فإن وافقت الصفتان فقد أكد إحدى الصفتين بالأخرى ، فكان أبلغ في التمييز ، وإن خالفت الصفات فالنكاح باطل : لأن كلتا الصفتين لازمتان ، وليس اعتبار أحدهما في تمييز المنكوحة بأولى من اعتبار الأخرى ، فصارت المنكوحة منهما مجهولة ، فلذلك بطل النكاح ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية