فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من أن اليهود والنصارى من أهل الكتاب قد كانوا على دين حق ثم نسخ ، فيجوز لحرمة كتابهم أن يقروا على دينهم بالجزية ، أي يزكوا وتؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم ، فأما فمجمع عليه بالنص الوارد في كتاب الله تعالى فيه . إقرارهم بالجزية وأكل ذبائحهم
أما الجزية فلقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] .
فأما أكل الذبائح فقوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ المائدة : 5 ] .
أما فالذي عليه جمهور الصحابة والتابعين غير نكاح حرائرهم الإمامية من الشيعة ، أنهم منعوا من نكاح حرائرهم مع القدرة على نكاح المسلمات : استدلالا بقوله تعالى : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ الممتحنة : 10 ] وقوله تعالى : لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء [ المائدة : 51 ] الآية . قالوا ولأن بعضهم يمنع من نكاح نسائهم كعبدة الأوثان ، قالوا : ولأنهم وإن كانوا أهل كتاب منزل فكتابهم مغير منسوخ ، وما نسخه الله تعالى ارتفع حكمه ، فلم يفرق بينه وبين ما لم يكن ، فكذلك صاروا بعد نسخه في حكم من لا كتاب له ، وهذا خطأ لقوله تعالى : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن [ المائدة : 5 ] فجمع بين نكاحهن ونكاح المؤمنات فدل على إباحته .
فإن قيل : فهذا منسوخ بقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] متقدمة : لأنها من سورة البقرة ، وقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم متأخرة : لأنها من سورة المائدة ، وهي من آخر ما نزل من القرآن ، والمتأخر هو الناسخ للمتقدم ، وليس يجوز أن يكون المتقدم ناسخا للمتأخر ، فعلى هذا الجواب يكون قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن منسوخا بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة : 5 ] وهذا قول ابن عباس .
والجواب الثاني : أن قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] عام ، وقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم خاص ، والخاص من حكمه أن يكون قاضيا على العام ، ومخصصا له سواء تقدم عليه أو تأخر عنه ، فعلى هذا يكون قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ البقرة : 221 ] مخصوصا بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة : 5 ] وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي ، وأن اسم الشرك يطلق على أهل الكتاب وغيرهم من عبدة الأوثان ، وذهب غيره من الفقهاء : إلى أن أهل الكتاب يطلق عليه اسم الكفر ولا يطلق عليه اسم الشرك ، وأن اسم الشرك يطلق على من لم يوحد الله تعالى وأشرك به غيره من عبدة الأوثان ، فعلى هذا القول يكون قوله : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن خصوصا ولا منسوخا ثم حكمه ثابت على عمومه .
ثم يدل على جوازه نكاحهم ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ملك ريحانة وكانت يهودية واستمتع بها بملك اليمين ، ثم أسلمت ، فبشر بإسلامها ، فسر به ، ولو منع الدين منها لما استمتع بها ، كما لم يستمتع بوثنية ، ولأنه إجماع الصحابة ، روي عن عمر جوازه ، وعن عثمان أنه نكح [ ص: 222 ] نصرانية وعن طلحة أنه تزوج نصرانية ، وعن حذيفة أنه تزوج يهودية ، وعن جابر أنه سئل عن ذلك ، فقال : " نكحناهن بالكوفة عام الفتح مع سعد بن أبي وقاص " ، ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا ، فلما انصرفنا من العراق طلقناهن ، تحل لنا نساؤهم ولا تحل لهم نساؤنا ، فكان هذا القول من جابر إخبارا عن أحوال جماعة المسلمين الذين معه من الصحابة وغيرهم ، فصار إجماعا منتشرا .
فإن قيل : فقد خالف ابن عمر .
قيل : ابن عمر كره ولم يحرم ، فلم يصر مخالفا ، ولأن الله تعالى قد أنزل كتابا من كلامه ، وبعث إليهم رسولا من أنبيائه كانوا في التمسك به على حق ، فلم يجز أن يساووا في الشرك من لم يكن من عبدة الأوثان على حق معه ، ولأنه لما جاز لحرمة كتابهم ، وما تقدم من صحة دينهم أن يفرق بينهم وبين عبدة الأوثان في حقن دمائهم بالجزية ، وأكل ذبائحهم جاز أن يفرق بينهم في نكاح نسائهم ، فأما الآية فقد مضى الجواب عنها .
وأما قوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ الممتحنة : آية 10 ] فمخصوص بعبدة الأوثان .
وأما قياسهم على عبدة الأوثان ، فممنوع بما ذكرنا من الفرق بينهما في قبول الجزية ، وأكل الذبائح .
وأما قولهم : إن كتابهم منسوخ ، فهو كما لو لم يكن ، فالجواب عنه : أن ما نسخ حكمه لا يوجب أن لا ينسخ حرمته ، ألا ترى أن ما نسخ من القرآن ثابت الحرمة ، وإن كان منسوخ الحكم ، كذلك نسخ التوراة والإنجيل .