الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 323 ] باب الشغار ، وما دخل فيه ، من أحكام القرآن

                                                                                                                                            قال الشافعي رحمه الله : " وإذا أنكح الرجل ابنته ، أو المرأة يلي أمرها الرجل على أن ينكحه ابنته ، أو المرأة يلي أمرها على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى ولم يسم لكل واحدة منهما صداقا ، فهذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مفسوخ " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وأما الشغار في اللغة فهو الخلو ، يقال : بلد شاغر إذا خلا من سلطان ، وأمر شاغر إذا خلا من مدبر .

                                                                                                                                            أصله : مأخوذ من شغور الكلب ، يقال : قد شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه للبول لخلو الأرض منها .

                                                                                                                                            وحكى الجاحظ أن شغور الكلب علامة بلوغه ، وأنه يبلغ بعد ستة أشهر من عمره ، واستشهد بقول الشاعر .


                                                                                                                                            حتى توفا الستة الشهورا من عمره وبلغ الشغورا

                                                                                                                                            هذا قول أبي عمرو بن العلاء ، والأصمعي ، وأكثر أهل اللغة .

                                                                                                                                            وقال ابن الأعرابي : سمي الشغار شغارا : لقبحه ، ومنه شغور الكلب : لقبح منظره إذا بال مع رفع رجله .

                                                                                                                                            وقال ثعلب : الشغار الرفع ، ومنه شغور الكلب .

                                                                                                                                            والأصل في الشغار ما رواه ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار .

                                                                                                                                            وروى حميد عن الحسن عن عمران بن الحصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام . والشغار ، ما وصفه الشافعي بقول الرجل : قد زوجتك بنتي أو وليتي ، على أن تزوجني بنتك أو وليتك ، على أن تضع كل واحدة منهما صداق [ ص: 324 ] الأخرى ، أو يقول : على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى ، فهذا هو الشغار المنهي عنه ، والدليل عليه حديثان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار . والشغار : أن يزوج الرجل ابنته الرجل على أن يزوجه الرجل الآخر ابنته ليس بينهما صداق .

                                                                                                                                            والحديث الثاني : رواه معمر عن ثابت عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا شغار في الإسلام . والشغار أن يبذل الرجل أخته بأخته .

                                                                                                                                            وهذا التفسير من الراوي إما أن يكون سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو نص ، وإما أن يكون عن نفسه ، فهو لعلمه بمخرج الخطاب ومشاهدة الحال أعرف به من غيره .

                                                                                                                                            فإذا تقرر أن نكاح الشغار ما وصفنا ، فعقد النكاح فيه باطل . وبه قال مالك ، وأحمد ، وإسحاق ، إلا أن مالكا جعل النهي فيه متوجها إلى الصداق ، وعنده أن فساد الصداق موجب لفساد النكاح ، وعندنا أن النهي فيه متوجه إلى النكاح دون الصداق ، وأن فساد الصداق لا يوجب فساد النكاح ، فصار مالك موافقا في الحكم مخالفا في معنى النهي .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : نكاح الشغار جائز ، والنهي فيه متوجه إلى الصداق دون النكاح ، وفساد الصداق لا يوجب فساد النكاح ، فصار مخالفا لمالك في الحكم موافقا له في معنى النهي .

                                                                                                                                            وبه قال الزهري ، والثوري : استدلالا بأن النهي متوجه إلى الصداق : لأنه لو قال كل واحد منهما : قد زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك كان النكاح جائزا ، وإنما أبطله إذا قال : على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى ، فدل على أن النهي توجه إلى الصداق ، وفساده لا يوجب فساد النكاح ، كما لو تزوجها على صداق من خمر ، أو خنزير ، ولأنه لو قال : قد زوجتك بنتي على أن صداقها طلاق امرأتك صح النكاح ، وإن جعل الصداق بضع زوجته ، فكذلك في مسألتنا ، قالوا : ولأنكم جوزتم النكاح إذا سمى لهما أو لأحدهما صداقا فكذلك وإن لم يسميه : لأن ترك الصداق في العقد الصحيح لا يوجب فساده ، كما أن ذكره في العقد الفاسد لا يوجب صحته .

                                                                                                                                            ودليلنا ما قدمناه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم ، والنهي عندنا يقتضي فساد المنهي عنه ما لم يصرف عنه دليل .

                                                                                                                                            فإن قالوا : قد فسد بالنهي ما توجه إليه وهو الصداق دون النكاح ، فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن النهي توجه إلى النكاح : لما رواه نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار .

                                                                                                                                            [ ص: 325 ] والثاني : أنه يجمل على عموم الأمرين .

                                                                                                                                            فإن قالوا : إنما سمي شغارا لخلوه من صداق ، ونحن لا نخليه : لأننا نوجب فيه صداق المثل فامتنع أن يكون شغارا .

                                                                                                                                            قيل : هذا فاسد : لأنه ليس يمنع ما أوجبتموه من الصداق بعد العقد من أن يكون نكاح الشغار وقت العقد قد توجه النهي إليه فاقتضى فساده .

                                                                                                                                            ومن طريق القياس ، ما ذكره الشافعي في القديم : أنه عقد فيه مثنوية ، ومعناه : أنه ملك الزوج بضع بنته بالنكاح أو ارتجعه منه بأن جعله ملكا لبنت الزوج بالصداق ، وهذا موجب لفساد النكاح ، كما لو قال : زوجتك بنتي على أن يكون بضعها ملكا لفلان ، كان النكاح فاسدا بالإجماع ، كذلك هذا بالحجاج ، وتحريره : أنه جعل المقصود لغير المعقود له ، فوجب أن يبطل قياسا على ما ذكرنا من قوله : زوجتك بنتي على أن يكون بضعها لفلان ، ولأنه جعل المعقود عليه معقودا به فوجب أن يكون باطلا ، كما لو زوج بنته بعبد على أن تكون رقبته صداقها ، ولأن العين الواحدة إذا جعلت عوضا ومعوضا ، فإذا بطل أن تكون عوضا بطل أن تكون معوضا كالثمن والمثمن في البيع ، وهو أن يقول : قد بعتك عبدي بألف على أن يكون ثمنا لبيع دارك علي .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بأن الفساد في الصداق : لأنه لو قال : قد زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك ، كان النكاح جائزا ، فهو أن الفساد إنما كان في الشغار للاشتراك في البضع ، وفي هذا الموضع لا يكون في البضع اشتراك فصح ، ألا تراه لو قال : زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك ، على أن بضع بنتي صداق لبنتك ، بطل نكاح بنته : لأنه حصل في بضعها اشتراكا ، ولم يبطل نكاح الأخرى : لأنه لم يحصل في بضعها اشتراكا .

                                                                                                                                            وأما استدلاله بأنه لو جعل صداق بنته طلاق زوجته صح ، فكذلك هاهنا ، فالجواب عنه : أنه فساد اختص بالمهر ولم يحصل في البضع تشريك ، فلذلك صح ، وليس كذلك في مسألتنا .

                                                                                                                                            وأما استدلاله الآخر فسنذكر من اختلاف أصحابنا في حكمه ما يكون جوابا ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية