الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3278 119 - حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار، فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه - والله يا هؤلاء - لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه. فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز فذهب وتركه، وأني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا، وأنه أتاني يطلب أجره فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها. فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز! فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق. فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا! فانساخت عنهم الصخرة، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ليلة، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع! فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا! فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء، فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي، وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت، فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه! فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك [ ص: 52 ] ففرج عنا! ففرج الله عنهم فخرجوا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه المطابقة قد ذكر الآن.

                                                                                                                                                                                  وإسماعيل بن خليل أبو عبد الله الخزاعي الكوفي.

                                                                                                                                                                                  وقد مضى هذا الحديث في الإجارة في باب من استأجر أجيرا فترك أجره، أخرجه عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر، ومضى أيضا في البيوع في باب إذا اشترى شيئا لغيره عن يعقوب بن إبراهيم عن أبي عاصم عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، ومضى أيضا في البيوع في باب إذا زرع بمال قوم عن إبراهيم بن المنذر عن أبي ضمرة عن موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر، ولم يخرج البخاري هذا الحديث إلا من رواية ابن عمر وكذلك مسلم، وفي الباب عن أنس عند الطبراني، وعن أبي هريرة عند ابن حبان، وعن النعمان بن بشير عند أحمد، وعن علي وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أوفى عند الطبراني، وقد ذكرنا في كل موضع بما فتح الله تعالى، ونذكر هنا بعض شيء وما علينا إن وقع بعض تكرار، فإن التكرير يفيد تكرار المسك عند التضوع!

                                                                                                                                                                                  قوله: (ممن كان قبلكم)؛ يعني من بني إسرائيل كما في رواية الطبراني التي ذكرناها آنفا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يمشون) في محل الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ وهو قوله: " ثلاثة نفر "، وأضيف " بينما " إلى هذه الجملة، وقوله: " إذ أصابهم " جواب " بينما ".

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأووا إلى غار) بقصر الهمزة، يقال: أوى بنفسه مقصور، وآويته أنا بالمد، وقيل: يجوز هنا القصر والمد. وفي رواية أحمد والطبراني وأبي يعلى والبزار: فدخلوا غارا فسقط عليهم حجر يتجافى حتى ما يرون منه. وفي رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عند البخاري: حتى أواهم المبيت - بنصب " المبيت " على المفعولية، ووجهوه بأن دخول الغار من فعلهم، فحسن أن ينسب الإيواء إليهم. وفي رواية مسلم من هذا الوجه: فآواهم المبيت - برفع " المبيت " على الفاعلية.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فانطبق عليهم)؛ أي: باب الغار، ومضى في المزارعة " فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم "، وفي رواية سالم: فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار. وفي رواية الطبراني من حديث النعمان بن بشير: إذ وقع الحجر من الجبل مما يهبط من خشية الله حتى سد فم الغار.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إنه)؛ أي: الشأن.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فليدع كل رجل منكم)، وفي رواية موسى بن عقبة: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله. ومثله في رواية مسلم وفي البيوع: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه. وفي رواية سالم: إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. وفي حديث أبي هريرة وأنس جميعا: فقال بعضهم: عفا الأثر ووقع الحجر ولا يعلم بمكانكم إلا الله، ادعوا الله بأوثق أعمالكم. وفي حديث النعمان بن بشير: إنكم لن تجدوا شيئا خيرا لكم من أن يدعو كل امرئ منكم بخير عمل عمله قط.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقال واحد منهم)، وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت والنسفي: وقال اللهم - بدون ذكر لفظ " واحد منهم ".

                                                                                                                                                                                  قوله: (إن كنت تعلم) على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأنهم كانوا جازمين بأن الله عالم بذلك فلا مجال لحرف الشك فيه، وأجيب بأنهم لم يكونوا عالمين بأن لأعمالهم اعتبارا عند الله ولا جازمين فقالوا: إن كنت تعلم لها اعتبارا ففرج عنا.

                                                                                                                                                                                  قوله: (على فرق) بفتح الفاء والراء بعدها قاف وقد تسكن الراء، وهو مكيال يسع ثلاثة آصع.

                                                                                                                                                                                  قوله: (من أرز) فيه ست لغات قد ذكرناها فيما مضى.

                                                                                                                                                                                  قوله: (عمدت)؛ أي: قصدت.

                                                                                                                                                                                  قوله: (اشتريت منه بقرا)، قال الكرماني: فإن قلت فيه: صحة بيع الفضولي - قلت: هذا شرع من قبلنا، ثم ليس فيه أن الفرق كان معينا ولم يكن في الذمة وقبضه الأجير ودخل في ملكه، بل كان هذا تبرعا منه له، انتهى. قلت: لا حاجة أصلا إلى هذا السؤال؛ لأن بيع الفضولي يجوز إذا أجازه صاحب المتاع، فلا يقال من أول الأمر إن البيع غير صحيح.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فانساخت)؛ أي انشقت، وأنكره الخطابي لأن معنى انساخ بالمعجمة - ويقال انصاخ بالصاد المهملة بدل السين - أي انشق من قبل نفسه. قال: والصواب انساحت بالحاء المهملة؛ أي اتسعت، ومنه ساحة الدار. قال: وانصاح - بالصاد المهملة بدل السين - أي: تصدع، يقال للبرق. قيل: الرواية بالخاء المعجمة صحيحة وهي بمعنى انشقت، وإن كان أصله بالصاد فالصاد قد قلبت سينا ولا سيما مع الخاء المعجمة كالصخر والسخر، ووقع في حديث سالم: فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج. وفي حديث النعمان بن بشير: فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء. وفي حديث علي: فانصدع الجبل حتى طمعوا في الخروج ولم يستطيعوا. وفي حديث أبي هريرة وأنس: فزال ثلث الحجر.

                                                                                                                                                                                  قوله: (اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي) كذا في [ ص: 53 ] رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر بحذف " أنه ".

                                                                                                                                                                                  قوله: (أبوان) من باب التغليب والمراد الأب والأم، وصرح بذلك في حديث ابن أبي أوفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: (شيخان كبيران)، وزاد في رواية أبي ضمرة عن موسى بن عقبة: ولي صبية صغار، فكنت أرعى عليهم. وفي حديث علي: أبوان ضعيفان فقيران، ليس لهما خادم ولا راع ولا ولي غيري، فكنت أرعى لهما بالنهار وآوي إليهما بالليل.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأبطأت عنهما ليلة)، وفي رواية سالم: فنأى بي طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما. والشيء لم يفسر ما هو في هذه الرواية، وقد بين في رواية مسلم من طريق أبي ضمرة ولفظه: وأنه نأى بي ذات يوم الشجر. والمراد أنه بعد عن مكانه الذي يرعى فيه على العادة لأجل الكلأ فذلك أبطأ، ويفسره أيضا حديث علي: فإن الكلأ تناءى علي - أي: تباعد، والكلأ العشب الذي يرعى الغنم منه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وأهلي) مبتدأ، و" عيالي " عطف عليه، وخبره " يتضاغون " بضاد وغين معجمتين من الضغاء - بالمد - وهو الصياح. وقال الداودي: يريد بالأهل والعيال الزوجة والأولاد والرقيق والدواب، واعترض عليه ابن التين فقال: لا معنى للدواب هنا! قلت: تدخل الدواب في العيال بالنظر إلى المعنى اللغوي؛ لأن معنى قولهم عال فلان أي: أنفق عليه، وجاء في رواية سالم: وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا - فهذا يقوي ما ذكرناه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (من الجوع)؛ أي: بسبب الجوع، وفيه رد على من قال: لعل صياحهم كان بسبب آخر غير الجوع.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فكرهت أن أوقظهما)، وفي حديث علي: ثم جلست عند رؤوسهما بإنائي كراهية أن أوقظهما أو أوذيهما. وفي حديث أنس: كراهية أن أرد وسنهما. وفي حديث ابن أبي أوفى: وكرهت أن أوقظهما من نومهما فيشق ذلك عليهما.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ليستكنا) من الاستكانة؛ أي: ليضعفا لأنه عشاؤهما، وترك العشاء يهرم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لشربتهما)؛ أي: لأجل عدم شربهما، وقال الكرماني: ويروى: " ليستكنا "؛ يعني بتشديد النون، أي: يلبثا في كنهما منتظرين لشربهما.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأبت)؛ أي امتنعت، وفي رواية موسى بن عقبة: فقالت لا تنال ذلك منها - حتى قوله: بمائة دينار. وفي رواية سالم: فأعطيتها عشرين ومائة دينار. وطلب المائة منها والزيادة من قبل نفسه، أو الراوي الذي لم يذكر الزيادة طرحها، وفي حديث ابن أبي أوفى: مالا ضخما.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فلما قعدت بين رجليها)، وفي حديث ابن أبي أوفى: وجلست منها مجلس الرجل من المرأة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لا تفض) بالفاء والضاد المعجمة؛ أي: لا تكسر، والخاتم كناية عن عذرتها وكأنها كانت بكرا.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): في حديث النعمان ما يدل على أنها لم تكن بكرا! قلت: يحمل على أنها أرادت بالخاتم الفرج، والألف واللام في الخاتم عوض عن الياء أي: خاتمي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إلا بحقه)؛ أي: الحلال، أرادت أنها لا تحل له إلا بتزويج صحيح، ووقع في حديث علي: فقالت أذكرك الله أن لا ترتكب مني ما حرم الله عليك! قال: أنا أحق أن أخاف ربي. وفي حديث النعمان بن بشير: فلما أمكنتني من نفسها بكت، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: فعلت هذا من الحاجة! فقلت: انطلقي. وفي حديث ابن أبي أوفى: فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة ذكرت النار فقمت عنها.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية