الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  362 35 - حدثنا إسحاق قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، قال حميد بن عبد الرحمن : ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ، فأمره أن يؤذن ببراءة ، قال أبو هريرة : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله "ولا يطوف بالبيت عريان" ، فإن منع الطواف عاريا يدل على وجوب ستر العورة ، وقد تقدم الكلام في هذا الجزء من هذا الحديث في : باب : وجوب الصلاة في الثياب .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم ستة : الأول : إسحاق بن إبراهيم ، ووقع في رواية الأكثرين إسحاق مجردا غير منسوب ؛ فلذلك تردد فيه الحفاظ فمنهم من قال : إسحاق بن منصور ، ومنهم من قال : إسحاق بن إبراهيم المشهور بابن راهويه ؛ لأن كلا منهما يروي عن يعقوب بن إبراهيم ، والنسخة التي فيها إسحاق بن إبراهيم هي الأصح ، وقال الكرماني : قوله : إسحاق أي ابن إبراهيم المشهور بابن راهويه في آخر باب فضل من علم ، وقال بعضهم : ووقع في نسختي من طريق أبي ذر إسحاق بن إبراهيم فتعين أنه ابن راهويه إذ لم يرو البخاري عن إسحاق بن أبي إسرائيل ، واسمه إبراهيم شيئا ( قلت ) وقوع إسحاق منسوبا في نسخته إنما علم أنه ابن راهويه من جهة أبي ذر لا من جهة نسخته ، وأيضا فإنه قال أولا : وردده الحفاظ بين ابن منصور ، وبين ابن راهويه ، فكيف يعلل بعد هذا بقوله : إذ لم يرو البخاري عن إسحاق بن أبي إسرائيل .

                                                                                                                                                                                  الثاني : يعقوب بن إبراهيم بن سعد سبط عبد الرحمن بن عوف .

                                                                                                                                                                                  الثالث : ابن أخي ابن شهاب هو محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري ، والزهري محمد بن مسلم بن شهاب .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عمه ، وهو الزهري .

                                                                                                                                                                                  الخامس : حميد بضم الحاء ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  السادس : أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه الإخبار بصيغة الإفراد ، وفيه أربعة زهريون ، وهم يعقوب إلى أبي هريرة ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في الجزية عن أبي اليمان ، وفي المغازي عن أبي الربيع الزهراني ، وفي الحج عن يحيى بن بكير ، وفي التفسير عن سعيد بن عفير ، وعن عبد الله بن يوسف ، وعن إسحاق بن منصور ، وعن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان ، وأخرجه مسلم في الحج عن هارون بن سعيد ، وعن حرملة بن يحيى ، وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن يحيى بن فارس ، وأخرجه النسائي عن أبي داود الحراني .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معانيه ) : قوله : "في تلك الحجة" أي التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق على الحاج ، وهي قبل حجة الوداع بسنة ، وهي السنة التاسعة كما ذكر في المغازي ، قوله : "في مؤذنين" أي : في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر كأنه مقتبس مما قال الله تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر وفي رواية أبي داود يوم الحج الأكبر يوم النحر ، والحج الأكبر الحج . ( قلت ) الحج الأصغر العمرة .

                                                                                                                                                                                  قوله : "ألا يحج" أصله أن لا يحج فأدغمت النون في لا فصار ألا بفتح الهمزة [ ص: 78 ] وتشديد اللام ، وهذه رواية الأكثرين ، وفي رواية الكشميهني : "ألا لا يحج" بأداة الاستفتاح قبل حرف النفي ، وقال بعضهم : بحرف النهي ، وليس كذلك بل هو حرف النفي ، وقال الكرماني : هل يكون ذلك العام داخلا في ذلك الحكم أم لا ؟ ( قلت ) الظاهر أن المراد بعد خروج هذا العام لا بعد دخوله ، ( قلت ) ينبغي أن يدخل هذا العام أيضا بالنظر إلى التعليل . قوله : "قال حميد بن عبد الرحمن ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا مرسل من قبيل مراسيل التابعين ؛ لأن حميدا ليس بصحابي حتى يقال : إنه شاهده بنفسه ، وقال الكرماني : ولفظ : قال حميد وقال أبو هريرة يحتمل أن يكون كل منهما تعليقا من البخاري ، وأن يكونا داخلين تحت الإسناد ، لكن ظاهر أن مسألة الإرداف لم يسندها حميد ، وفي التوضيح : وقول حميد : ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره يحتمل أن يكون تلقاه من أبي هريرة ، وأن يكون الزهري رواه عنه موصولا عند البخاري ، ( قلت ) الوجه هو الذي ذكرته كما نص عليه المزي وغيره .

                                                                                                                                                                                  قوله : "ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا" أي : ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن طالب وراء أبي بكر ، فأمره أن يؤذن ببراءة ، قال ابن عبد البر : أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر بالخروج إلى الحج ، وإقامته للناس فخرج أبو بكر ، ونزل صدر براءة بعده . فقيل : يا رسول الله ، لو بعثت بها إلى أبي بكر يقرؤها على الناس في الموسم فقال : إنه لا يؤديها عني إلا رجل من أهل بيتي ، ثم دعا عليا فقال : اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن بها في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا في منى ، فخرج على ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق ، فقيل بذي الحليفة ، وقيل : بالعرج ، فوصل بالسحر فسمع أبا بكر رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا علي فقال أبو بكر : استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج ؟ قال : لا ، ولكن بعثني أن أقرأ براءة على الناس . فقال أبو بكر : أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، وذكر أحمد في فضائل علي رضي الله عنه : "لما بلغ أبو بكر ذا الحليفة" وفي لفظ : "بالجحفة بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فرده وقال : لا يذهب بها إلا رجل من أهل بيتي" ، وفي لفظ : "فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله ، نزل في شيء ؟ قال : لا ، ولكن جبريل عليه الصلاة والسلام جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" ، ( فإن قلت ) : ما الحكمة في إعطاء علي براءة ؟ ( قلت ) لأن براءة تضمنت نقض العهد ، وكانت سيرة العرب أن لا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته ، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يقطع ألسنة العرب بالجحد ، وأرسل ابن عمه الهاشمي حتى لا يبقى لهم متكلم ، وقيل : إن في سورة براءة ذكر الصديق ؛ يعني قوله تعالى : ثاني اثنين إذ هما في الغار فأراد صلى الله عليه وسلم أن غيره يقرؤها ، ( فإن قلت ) : علي كان مأمورا بالتأذين ببراءة فكيف قال : فأذن معنا بأنه لا يحج ؟ ( قلت ) إما لأن ذلك داخل في سورة براءة ، وإما أن معناه أنه أذن فيه أيضا معنا بعد تأذينه ببراءة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستنبط منه ) : هو أنه صلى الله عليه وسلم أبطل ما كانت الجاهلية عليه من الطواف عراة ، واستدل به على أن ستر العورة واجب ، وهو الموافق لترجمة الباب ، وقال الكرماني : واستدل به على أن الطواف يشترط له ستر العورة ، ( قلت ) إذا طاف الحج عريانا لا يعتد به عندهم ، وعندنا يعتد ، ولكن يكره .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية