الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  340 13 - ( حدثنا محمد بن سلام قال : أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق قال : كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري ، فقال له أبو موسى : لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا أما كان يتيمم ويصلي ؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فقال عبد الله : لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد ، ( قلت ) : وإنما كرهتم هذا لذا ؟ قال : نعم ، فقال أبو موسى : ألم تسمع قول عمار لعمر : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة ، فأجنبت ، فلم أجد الماء ، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ، ثم مسح بهما وجهه ، فقال عبد الله : أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار - رضي الله عنهما - )

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذه طريقة أخرى ، وهي أتم من الطريقتين المذكورتين عن محمد بن سلام ، وفي رواية الأصيلي : هو محمد بن سلام بتخفيف اللام البيكندي ، عن أبي معاوية ، الضرير محمد بن خازم بالمعجمتين عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة ، وهو أبو وائل المذكور في الباب السابق في الطريقة الأولى ، وهي رواية بشر بن خالد . قوله : " أجنب " أي : إذا صار جنبا . قوله : " أما كان يتيمم " ، والهمزة فيه في رواية كريمة ، والأصيلي ، وفي رواية مسلم : " كيف تصنع بالصلاة ؟ قال عبد الله : لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا " ونحوه لأبي داود " قال : فقال أبو موسى : فكيف تصنعون بهذه الآية " ثم الهمزة فيه إما مقحمة وإما للتقرير وما نافية على أصلها وعلى التقديرين الأولين وقع جوابا للو إما على تقدير الإقحام فإن وجوده كعدمه ، وأما على تقدير التقرير فإنه لم يبق على معنى الاستفهام الذي هو المانع من وقوعه جزاء للشرط ، والقول مقدر قبل لو ، وحاصله يقولون : لو أجنب رجل ما تيمم كيف تصنعون ، وعلى التقدير الثالث : وقع جوابا بتقدير القول أي : لو أجنب رجل يقال في حقه : إما يتيمم ويحتمل أن يكون جواب لو هو : فكيف تصنعون ؟ قوله : " في سورة المائدة " ، وفي رواية الكشميهني " فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة " وليس في رواية الأصيلي لفظ الآية ، و . قوله : " فلم تجدوا " هو بيان للمراد من الآية [ ص: 37 ] ووقع في رواية الأصيلي : " فإن لم تجدوا " وهو مغاير للتلاوة ، وقيل : إنه كان كذلك في رواية أبي ذر ثم أصلحها على وفق الآية ، وإنما عين سورة المائدة لكونها أظهر في مشروعية تيمم الجنب من آية النساء لتقدم حكم الوضوء في المائدة ، وقال الخطابي وغيره : فيه دليل على عبد الله كان يرى أن المراد بالملامسة الجماع ، فلهذا لم يدفع دليل أبي موسى وإلا لكان يقول له : المراد من الملامسة التقاء البشرتين فيما دون الجماع ، وجعل التيمم بدلا من الوضوء لا يستلزم أن يكون بدلا من الغسل ( قلت ) لو أراد بالملامسة الجماع لكان مخالفة للآية صريحا ، وإنما تأولها على معنى غير الجماع كما ذكرنا عن قريب . قوله : " أن يتيمموا الصعيد " أي : أن يقصدوه ، ويروى : " أن يتيمموا بالصعيد " . قوله : " ( قلت ) " هو مقول شقيق كذا قاله الكرماني ، ( قلت ) ليس كذلك بل القائل ذلك هو الأعمش ، والمقول له هو شقيق كما صرح بذلك في رواية عمر بن حفص التي مضت قبل هذه . قوله : " هذا " أي : تيمم الجنب . قوله : " لذا " أي : لأجل تيمم صاحب البرد . قوله : " كما تمرغ الدابة " بالتشديد وضم الغين المعجمة ، وأصله تتمرغ بالتاءين فحذفت إحداهما للتخفيف كما في قوله تعالى : " نارا تلظى " أصله تتلظى . قوله : " بكفه ضربة " ، ويروى " بكفيه " .

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : اعلم أن هذه الكيفية مشكلة من جهات . أولا : مما ثبت من الطريق الآخر أنه ضربتان ، وقال النووي : الأصح المنصوص ضربتان . وثانيا : من جهة الاكتفاء بمسح ظهر كف واحدة وبالاتفاق مسح كلا ظهري الكفين واجب ، ولم يجوز أحد الاجتزاء بأحدهما . وثالثا : من حيث إن الكف إذا استعمل ترابه في ظهر الشمال كيف مسح به الوجه وهو صار مستعملا . ورابعا : من جهة أنه لم يمسح الذارعين . وخامسا : من عدم مراعاة الترتيب وتقديم الكف على الوجه ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) هذه خمسة إشكالات أوردها ثم تكلف في الجواب عنها ثم قال في آخره : هذا غاية وسعنا في تقريره ، ولعل عند غيرنا خيرا منه . أقول - وبالله التوفيق - : ملخص جوابه عن الأول بالمنع ، بأنا لا نسلم أن هذا التيمم كان بضربة واحدة ( قلت ) منعه ممنوع لأنه كان بضربة واحدة ؛ لأنه صرح فيه بأن الضربة الواحدة كافية فيحمل هذا على الجواز وما ورد من الزيادة عليها على الكمال ، وقوله : وقال النووي : الأصح المنصوص ضربتان اعتراض على الحديث بالمذهب وهو غير صحيح .

                                                                                                                                                                                  وأجاب عن الثاني : بأنه لا بد من تقدير : ثم ضرب ضربة أخرى ومسح بها يديه ( قلت ) لا يحتاج إلى هذا التقدير لأن أصل الفرض يقوم بضربة واحدة كما في الوضوء على أن مذهب جمهور العلماء الاكتفاء بضربة واحدة كذا ذكره ابن المنذر واختاره هو أيضا والبخاري أيضا فلذلك بوب عليه .

                                                                                                                                                                                  وأجاب عن الثالث بما لا طائل تحته ، والجواب السديد ملخصا أن التراب لا يأخذ حكم الاستعمال ، وهذا الحكم في الماء دون التراب .

                                                                                                                                                                                  وأجاب عن الرابع بمنع إيجاب مسح الذراعين وأكد ذلك بقوله ؛ ولهذا قالوا : مسح الكفين أصح في الرواية ومسح الذارعين أشبه بالأصول ( قلت ) فعلى هذا الإشكال الرابع غير وارد من الأول .

                                                                                                                                                                                  وأجاب عن الخامس بمنع إيجاب الترتيب كما هو مذهب الحنفية ( قلت ) هذه استعانة برأي من هو يخالف رأيه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ثم مسح بها ظهر كفه " ويروى " مسح بهما " . قوله : " أو ظهر شماله بكفه " كذا هو بالشك في جميع الروايات إلا في رواية أبي داود ، فإنه رواه أيضا من طريق أبي معاوية كما رواه البخاري ، ولفظه فقال : " إنما يكفيك أن تصنع هكذا وضرب بيديه على الأرض فنفضهما ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين ثم مسح وجهه " انتهى ، وهذا يحرر رواية غيره لأن الحديث واحد ، واختلاف الألفاظ باختلاف الرواية ، وفيه دليل صريح على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين جميعا ، ولكن العامة أجابوا عن هذا إن هذا الضرب المذكور كان للتعليم وليس المراد به بيان جميع ما يحصل به التيمم ؛ لأن الله تعالى أوجب غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء في أول الآية ثم قال في التيمم : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم والظاهر أن اليد المطلقة هنا هي المقيدة في الوضوء فافهم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فقال عبد الله " ويروى قال عبد الله بدون الفاء . قوله : " ألم تر عمر " ، وفي رواية الأصيلي وكريمة " أفلم تر " بزيادة الفاء فيه . قوله : " لم يقنع بقول عمار " ووجه عدم قناعته بقول عمار : هو أنه كان معه في تلك القضية ، ولم يتذكر عمر ذلك أصلا ؛ ولهذا قال لعمار فيما رواه مسلم عن عبد الرحمن بن أبزى " اتق الله يا عمار فيما ترويه وتثبت فيه فلعلك نسيت أو اشتبه عليك فإني كنت معك ولا أتذكر شيئا من هذا " ، ومعنى قول عمار : إن رأيت المصلحة في الإمساك عن التحديث به راجحة على التحديث وافقتك وأمسكت فإني قد بلغته ولم يبق علي حرج ، فقال له عمر - رضي الله تعالى عنه - : إنا نوليك [ ص: 38 ] ما توليت أي : لا يلزم من كوني لا أتذكره أن لا يكون حقا في نفس الأمر فليس لي منعك من التحديث به .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية