الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  330 4 - ( حدثنا يحيى بن بكير ، قال : حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج ، قال : سمعت عميرا مولى ابن عباس ، قال : أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري ، فقال أبو الجهيم : أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه ، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تيمم في الحضر لرد السلام ، وكان له أن يرده عليه قبل تيممه دل ذلك أنه إذا خشي فوات الوقت في الصلاة في الحضر أن له التيمم بل ذلك آكد لأنه لا تجوز الصلاة بغير وضوء ولا تيمم ، ويجوز السلام بغيرهما .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم سبعة ، الأول : يحيى بن بكير هو يحيى بن عبد الله بن بكير القريشي المخزومي أبو زكريا المصري . الثاني : الليث بن سعد الإمام المشهور . الثالث : جعفر بن ربيعة بن شرحبيل الكندي المصري مات سنة خمس وثلاثين ومائة . الرابع : الأعرج ، وهو عبد الرحمن بن هرمز راوية أبي هريرة ، تقدم في باب : حب الرسول من الإيمان . والخامس : عمير ، مصغر عمرو بن عبد الله الهاشمي ، مات بالمدينة سنة أربع ومائة . السادس : عبد الله بن يسار بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف السين المهملة المدني الهلالي . السابع : أبو جهيم ، بضم الجيم وفتح الهاء وسكون الياء آخر الحروف ، هو عبد الله بن الحارث بن الصمة بكسر الصاد المهملة ، وتشديد الميم الصحابي الخزرجي ، وللبخاري حديثان عنه ، ويروى أبو الجهيم بالألف واللام ، وقال الذهبي : أبو جهيم ، ويقال : أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة ، كان أبوه من كبار الصحابة ، وأبو جهم عبد الله بن جهيم ، قال أبو نعيم ، وابن منده ، أبو جهيم ، وابن الصمة : واحد ، وكذا قاله مسلم في بعض كتبه ، وجعلهما ابن عبد البر اثنين ، وعن ابن أبي حاتم عن أبيه ، قال : ويقال أبو الجهيم هو الحارث بن الصمة ، فعلى هذا تكون لفظة " ابن " في متن الحديث زائدة لكن صحح أبو حاتم أن الحارث اسم أبيه لا اسمه ، وفي الصحابة شخص آخر يقال له أبو الجهم ، وهو صاحب الأنبجانية وهو غير هذا لأنه قريشي ، وهذا أنصاري ، ( قلت ) : أبو الجهم هذا هو الذي قاله الذهبي أبو جهم عبد الله بن جهيم .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 15 ] ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في موضعين ، ولكن في رواية الإسماعيلي : حدثني جعفر وفيه أن نصف الإسناد الأول مصريون والنصف الثاني مدنيون ، وفيه عمير مولى ابن عباس كذا ههنا ، وهو مولى أم الفضل بنت الحارث والدة ابن عباس ، وإذا كان مولى أم الفضل فهو مولى أولادها ، وقد روى ابن إسحاق هذا الحديث وقال : مولى عبيد الله بن عباس ، وقد روى موسى بن عقبة ، وابن لهيعة ، وأبو الحويرث هذا الحديث عن الأعرج عن أبي الجهيم ولم يذكروا بينها عميرا ، والصواب إثباته ، وليس له في الصحيح غير هذا الحديث ، وحديث آخر عن أم الفضل وفيه رواية الأعرج عنه رواية الأقران وفيه السماع والقول ، وفيه عبد الله بن يسار وهو أخو عطاء بن يسار التابعي المشهور ، ووقع عند مسلم في هذا الحديث عبد الله بن يسار وهو وهم ، وليس له في هذا الحديث رواية ، ولهذا لم يذكره المصنفون في رجال الصحيحين .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم في الطهارة وقال : روى الليث فذكره وأخرجه أبو داود فيه عن عبد الملك بن شعيب بن الليث عن سعد عن أبيه عن جده ، وأخرجه النسائي فيه عن الربيع بن سليمان عن شعيب بن الليث به ، ومسلم ذكر هذا الحديث منقطعا ، وهو موصول على شرطه ، وفيه عبد الرحمن بن يسار وهو وهم كما ذكرناه ، وفيه أبو الجهم مكبرا وهو أبو الجهيم مصغرا ، وروى البغوي في شرح السنة بإسناده من حديث الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن أبي جهيم بن الصمة قال : " مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول ، فسلمت عليه فلم يرد علي ، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد علي " قال : هذا حديث حسن .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه وما ورد فيه من الروايات ) قوله : " من نحو بئر جمل " أي : من جهة الموضع الذي يعرف ببئر جمل بالجيم والميم المفتوحتين ، ويروى " ببئر الجمل " بالألف واللام ، وكذا في رواية النسائي ، وهو موضع بقرب المدينة فيه مال من أموالها . قوله : " فلقيه رجل " هو أبو الجهيم الراوي ، وقد صرح به الشافعي في حديثه الذي ذكرناه الآن . قوله : " فلم يرد " يجوز في داله الحركات الثلاث : الكسر ؛ لأنه الأصل ، والفتح لأنه أخف ، والضم لإتباع الراء . قوله : " حتى أقبل على الجدار " الألف واللام فيه للعهد الخارجي ، أي : جدار هناك والجدار كان مباحا فلم يحتج إلى الإذن في ذلك أو كان مملوكا لغيره وكان راضيا به . وفي رواية الطبراني في الأوسط " حتى إذا كان الرجل أن يتوارى في السكة ضرب بيديه على الحائط فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل السلام وقال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير طهر " ، وعند أبي داود من حديث حيوة عن ابن الهاد أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال : " أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغائط فلقيه رجل عند بئر جمل فسلم عليه فلم يرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه ثم رد على الرجل السلام " ، وعند البزار بسند صحيح عن نافع عنه أن رجلا مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول ، فسلم عليه الرجل فرد عليه السلام ، فلما جاوزه ناداه - عليه السلام - فقال : إنما حملني على الرد عليك خشية أن تذهب فتقول : إني سلمت على النبي ، فلم يرد علي ، فإذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلم علي ، فإنك إن تفعل لا أرد عليك " ، وعند الطبراني من حديث البراء بن عازب " أنه سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فلم يرد عليه حتى فرغ " وعنده أيضا من حديث جابر بن سمرة بسند فيه ضعف قال : " سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فلم يرد علي ، ثم دخل إلى بيته فتوضأ ثم خرج فقال : وعليك السلام " ، وعند الحاكم من حديث المهاجر بن قنفذ ، قال : أتيت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو يتوضأ فسلمت عليه فلم يرد علي فلما فرغ من وضوئه قال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء " وأخرجه الطحاوي أيضا ولفظه : " إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة " ، وأخرجه أبو داود ولفظه : " فلم يرد حتى توضأ ثم اعتذر إليه قال : إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر أو على طهارة " ، وأخرجه النسائي ، وابن ماجه ، وأحمد ، والبيهقي ، وابن حبان ، والطبراني وزاد : " فقمت مهموما فدعا بوضوء فتوضأ ورد علي وقال : إني كرهت أن أذكر الله على غير وضوء " ، وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة : " مر رجل على النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو يبول فسلم فلم يرد عليه ، فلما فرغ ضرب بكفيه الأرض فتيمم ثم رد عليه السلام . [ ص: 16 ] ( ذكر استنباط الأحكام منه ) منها ما قال ابن التين : قال بعضهم : يستنبط منه جواز التيمم في الحضر ، وعليه بوب البخاري ، وقال بعضهم فيه : التيمم للحضر إلا أنه لا دليل فيه أنه رفع بذلك التيمم الحدث رفعا استباح به الصلاة لأنه إنما فعله كراهة أن يذكر الله على غير طهارة ، كذا رواه حماد في مصنفه . وقال ابن الجوزي : كره أن يرد عليه السلام لأنه اسم من أسماء الله تعالى ، أو يكون هذا في أول الأمر ثم استقر الأمر على غير ذلك ، وفي شرح الطحاوي حديث المنع من رد السلام منسوخ بآية الوضوء ، وقيل : بحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - كان يذكر الله على كل أحيانه وقد جاء ذلك مصرحا به في حديث رواه جابر الجعفي عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن الغفراء عن أبيه قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الماء نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يسلم علينا حتى نزلت آية الرخصة : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وقال ابن دقيق العيد : هذا الحديث - يعني حديث المهاجر بن قنفذ - معلول ومعارض ، أما كونه معلولا ؛ فلأن سعيد بن أبي عروبة كان قد اختلط في آخر عمره فيراعى فيه سماع من سمع منه قبل الاختلاط ، وقد رواه النسائي من حديث شعبة عن قتادة به ، وليس فيه أنه لم يمنعني إلى آخره ، ورواه حماد بن سلمة عن حميد وغيره ، عن الحسن عن مهاجر منقطعا فصار فيه ثلاث علل ، وأما كونه معارضا فما رواه البخاري ومسلم من حديث كريب عن ابن عباس قال : " بت عند خالتي ميمونة " الحديث . ففي هذا ما يدل على جواز ذكر اسم الله وقراءة القرآن مع الحدث ، وزعم الحسن أن حديث مهاجر غير منسوخ وتمسك بمقتضاه ، فأوجب الطهارة للذكر ، وقيل : يتأول الخبر على الاستحباب لأن ابن عمر ممن روى في هذا الباب كما ذكرناه عن قريب روى ذلك ، والصحابي الراوي أعلم بالمقصود ومنها أنه استدل به بعض أصحابنا على جواز التيمم على الحجر ، قال : وذلك لأن حيطان المدينة مبنية بحجارة سود ، وقال ابن بطال في تيمم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجدار رد على الشافعي في اشتراط التراب ، لأنه معلوم أنه لم يعلق به تراب إذ لا تراب على الجدار . وقال الكرماني : أقول ليس فيه رد على الشافعي ؛ إذ ليس معلوما أنه لم يعلق به تراب وما ذاك إلا تحكم بارد ، إذ الجدار قد يكون عليه التراب وقد لا يكون ، بل الغالب وجود الغبار على الجدار مع أنه قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - حت الجدار بالعصا ثم تيمم ، فيجب حمل المطلق على المقيد انتهى ، ( قلت ) الجدار إذا كان من حجر لا يحتمل التراب لأنه لا يثبت عليه خصوصا جدران المدينة لأنها من صخرة سوداء ، وقوله : مع أنه ثبت . . . إلخ ممنوع ؛ لأن حت الجدار بالعصا رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد كما ذكرناه عن قريب ، وهو حديث ضعيف . ( فإن قلت ) : حسنه البغوي كما ذكرنا ( قلت ) كيف حسنه وشيخ الشافعي وشيخ شيخه ضعيفان لا يحتج بهما ، قاله مالك وغيره وأيضا فهو منقطع لأن ما بين الأعرج وأبي جهيم عمير كما سبق من عند البخاري وغيره ، ونص عليه أيضا البيهقي وغيره ، وفيه علة أخرى وهي زيادة حك الجدار لم يأت بها أحد غير إبراهيم ، والحديث رواه جماعة كما ذكرناه ، وليس في حديث أحدهم هذه الزيادة ، والزيادة إنما تقبل من ثقة ، ولو وقف الكرماني على ما ذكرنا لما قال : مع أنه قد ثبت أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - حت الجدار بالعصا . ومنها أنه استدل به الطحاوي على جواز التيمم للجنازة عند خوف فواتها ، وهو قول الكوفيين والليث والأوزاعي لأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - تيمم لرد السلام في الحضر لأجل فوت الرد ، وإن كان ليس شرطا ، ومنع مالك والشافعي وأحمد ذلك ، وهو حجة عليهم . ومنها أن فيه دلالة على جواز التيمم للنوافل كالفرائض . وقال صاحب التوضيح : وأبعد من خصه من أصحابنا بالفرائض ، ومنها أن التيمم مسح الوجه واليدين ؛ لقوله : " : فمسح بوجهه ويديه ( فإن قلت ) أطلق يديه فيتناول إلى الكفين وإلى المرفقين وإلى ما وراء ذلك ( قلت ) المراد منه "ذراعيه" ويفسره رواية الدارقطني وغيره في هذا الحديث ، فمسح بوجهه وذراعيه وفيه خلاف بين العلماء وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى عن قريب . .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية