الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  371 44 - حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه ، وآلى من نسائه شهرا ، فجلس في مشربة له درجتها من جذوع ، فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالسا وهم قيام ، فلما سلم قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإن صلى قائما فصلوا قياما ، ونزل لتسع وعشرين فقالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك آليت شهرا ، فقال : إن الشهر تسع وعشرون .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة في صلاته عليه الصلاة والسلام بأصحابه على ألواح المشربة وخشبها ، والخشب مذكور في الترجمة . قاله ابن بطال ، واعترض عليه الكرماني بقوله : ليس في الحديث ما يدل على أنه صلى على الخشب ؛ إذ المعلوم منه أن درجها من جذوع النخل لا نفسها ، ثم قال : ويحتمل أنه ذكره لغرض بيان الصلاة على السطح إذ يطلق السطح على أرض الغرفة . ( قلت ) الظاهر أن الغرفة كانت من خشب ، فذكر كون درجها من النخل لا يستلزم أن تكون البقية من البناء فالاحتمال الذي ذكره ليس بأقوى من الاحتمال الذي ذكرناه . .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم أربعة : الأول : محمد بن عبد الرحيم البغدادي الحافظ المعروف بصاعقة . الثاني : يزيد بن هارون تكرر ذكره . الثالث : حميد بضم الحاء ، الطويل . الرابع : أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في موضع واحد ، وفيه أن رواته ما بين بغدادي وواسطي وبصري .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا عن عبد الله بن المثنى ، وفي المظالم عن محمد هو ابن سلام ، وفي الصوم ، وفي النذور عن عبد العزيز بن عبد الله ، وفي النكاح عن خالد بن مخلد ، وفي الطلاق عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه وهو عبد الحميد ، وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن يحيى ، وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي ، والنسائي فيه عن قتيبة ، وأخرجه ابن ماجه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لغاته ومعانيه وإعرابه ) : قوله : "سقط عن فرس" ، وفي رواية أبي داود "فصرع عنه" ، ومعناه سقط أيضا ، وكان ذلك في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة . قوله : "فجحشت" بضم الجيم وكسر الحاء المهملة من الجحش ، وهو سجح الجلد ، وهو الخدش يقال : جحشه يجحشه جحشا خدشه ، وقيل : أن يصيبه شيء ينسجح كالخدش أو أكثر من ذلك ، وقيل : الجحش فوق الخدش ، وقال الخطابي : معناه أنه قد انسجح جلده ، وقد يكون ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك السقوط مع الخدش رض في الأعضاء وتوجع ؛ فلذلك منعه القيام إلى الصلاة . قوله : "أو كتفه" على الشك من الراوي ، ويروى بالواو الواصلة ، وفي رواية للبخاري : "فجحش شقه الأيمن" ، وفي لفظ عند أحمد عن حميد عن أنس بسند صحيح " انفكت قدمه " . قوله : "وآلى من نسائه" أي : حلف أن لا يدخل عليهن شهرا ، وليس المراد منه الإيلاء المتعارف بين الفقهاء ، وهو الحلف على ترك قربان امرأته أربعة أشهر أو أكثر منها ، وعند مالك والشافعي وأحمد لا بد من أكثر ، والمولي من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه ، فإن وطئها في المدة كفر ؛ لأنه حنث في يمينه ، وسقط الإيلاء ، وإلا بانت بتطليقة واحدة ، وكان الإيلاء طلاقا في الجاهلية فغير الشرع حكمه ، ويأتي حكمه في بابه إن شاء الله تعالى ، والإيلاء على وزن إفعال هو الحلف يقال آلى يؤلي إيلاء ، وتألى تأليا ، والألية اليمين ، والجمع ألايا كعطية ، وعطايا ، وإنما عدي آلى بكلمة من ، وهو لا يعدى إلا بكلمة على ؛ لأنه ضمن فيه معنى البعد ، ويجوز أن تكون من للتعليل مع أن الأصل فيه أن يكون للابتداء [ ص: 106 ] أي : آلى من نسائه أي : بسبب نسائه ومن أجلهن . قوله : "في مشربة" بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الراء وضمها وهي الغرفة ، وقيل : هي أعلى البيت شبه الغرفة ، وقيل : الخزانة ، وهي بمنزلة السطح لما تحتها . قوله : "من جذوع النخل" جمع جذع بكسر الجيم ، وسكون الذال ، وجمعه جذوع ، وأجذاع ، قاله ابن دريد ، وقال الأزهري في التهذيب : ولا يتبين للنخلة جذع حتى يتبين ساقها ، وفي المحكم الجذع ساق النخلة . قوله : "جالسا" حال ، وقوله : "وهم قيام" جملة اسمية حالية ، والقيام جمع قائم أو مصدر بمعنى اسم الفاعل . قوله : "إنما جعل الإمام" كلمة إنما للحصر لأجل الاهتمام والمبالغة ، والمفعول الثاني لقوله جعل محذوف تقديره : إنما جعل الإمام إماما ، والمفعول الأول قائم مقام الفاعل . قوله : "ليؤتم به" أي : ليقتدى به ، ويتبع أفعاله .

                                                                                                                                                                                  قوله : "إن صلى قائما فصلوا قياما" مفهومه إن صلى قاعدا يصلي المأموم أيضا قاعدا ، وهو غير جائز ، ولا يعمل به ؛ لأنه منسوخ لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم في آخر عمره صلى قاعدا ، وصلى القوم قائمين ، ( فإن قلت ) : جاء في بعض الروايات : " فإن صلى قاعدا فصلوا قعودا" ( قلت ) معناه فصلوا قعودا إذا كنتم عاجزين عن القيام مثل الإمام فهو من باب التخصيص ، وهو منسوخ كما ذكرنا . قوله : "إن الشهر" اللام فيه للعهد عن ذلك الشهر المعين إذ كل الشهور لا يلزم أن تكون تسعا وعشرين .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر استنباط الأحكام منه ) : منها جواز الصلاة على السطح ، وعلى الخشب ؛ لأن المشربة بمنزلة السطح لما تحتها ، والصلاة فيها كالصلاة على السطح ، وبذلك قال جمهور العلماء ، وكره الحسن وابن سيرين الصلاة على الألواح والأخشاب ، وكذلك روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ، رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح ، وذكره أيضا عن مسروق أنه كان يحمل لبنة في السفينة ليسجد عليها ، وحكاه أيضا عن ابن سيرين بسند صحيح .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه مشروعية اليمين ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام آلى أن لا يدخل على نسائه شهرا ، ومنها أن الشهر لا يأتي كاملا دائما ، وإن من حلف على فعل شيء أو تركه في شهر كذا ، وجاء الشهر تسعا وعشرين يوما يخرج عن يمينه ، فلو نذر صوم شهر بعينه فجاء الشهر تسعة وعشرين يوما لم يلزمه أكثر من ذلك ، وإذا قال : لله علي صوم شهر من غير تعيين كان عليه إكمال عدد ثلاثين يوما .

                                                                                                                                                                                  ومنها ما احتج أحمد وإسحاق وابن حزم والأوزاعي ونفر من أهل الحديث أن الإمام إذا صلى قاعدا يصلي من خلفه قعودا ، وقال مالك : لا تجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائما ولا قاعدا ، وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأبو ثور وجمهور السلف : لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائما ، وقال المرغيناني : الفرض والنفل سواء ، والجواب عن الحديث من وجوه : الأول : إنه منسوخ ، وناسخه صلاة النبي عليه الصلاة والسلام بالناس في مرض موته قاعدا وهم قيام ، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه قائم يعلمهم بأفعال صلاته بناء على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان الإمام ، وأن أبا بكر كان مأموما في تلك الصلاة ، ( فإن قلت ) : كيف وجه هذا النسخ وقد وقع في ذلك خلاف ؛ وذلك أن هذا الحديث الناسخ وهو حديث عائشة فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان إماما وأبو بكر مأموما ، وقد ورد فيه العكس كما أخرجه الترمذي والنسائي عن نعيم بن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق "عن عائشة قالت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدا " وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وأخرجه النسائي أيضا عن حميد عن أنس قال : "آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم صلى في ثوب واحد متوشحا خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه" ( قلت ) مثل هذا ما يعارض ما وقع في الصحيح مع أن العلماء جمعوا بينهما ، فقال البيهقي في المعرفة : ولا تعارض بين الحديثين ، فإن الصلاة التي كان فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إماما هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد ، والتي كان فيها مأموما هي صلاة الصبح من يوم الإثنين ، وهي آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى خرج من الدنيا . قال : وهذا لا يخالف ما ثبت عن الزهري عن أنس في صلاتهم يوم الإثنين ، وكشفه صلى الله عليه وسلم الستر ثم إرخائه ، فإن ذلك إنما كان في الركعة الأولى ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة فخرج فأدرك معه الركعة الثانية ، وقال القاضي عياض : نسخ إمامة القاعد بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحد بعدي جالسا " ، وبفعل الخلفاء بعده ، وإنه لم يؤم أحد منهم قاعدا ، وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه صلى الله عليه وسلم عن إمامة القاعد بعده ( قلت ) [ ص: 107 ] هذا الحديث أخرجه الدارقطني ، ثم البيهقي في سننيهما عن جابر الجعفي عن الشعبي ، وقال الدارقطني : لم يروه عن الشعبي غير جابر الجعفي ، وهو متروك ، والحديث مرسل لا تقوم به حجة ، وقال عبد الحق في أحكامه ، ورواه عن الجعفي مجالد ، وهو أيضا ضعيف . الثاني : أنه كان مخصوصا بالنبي صلى الله عليه وسلم وفيه نظر ؛ لأن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل كما عرف في الأصول .

                                                                                                                                                                                  الثالث : يحمل قوله : "فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" على أنه إذا كان الإمام في حالة الجلوس فاجلسوا ، ولا تخالفوه بالقيام ، وإذا صلى قائما فصلوا قياما ؛ يعني إذا كان في حالة القيام فقوموا ، ولا تخالفوه بالقعود ، وكذلك في قوله : "فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا" ولقائل أن يقول : لا يقوى الاحتجاج على أحمد بحديث عائشة المذكور أنه عليه الصلاة والسلام صلى جالسا والناس خلفه قيام ، بل ولا يصلح ؛ لأنه يجوز صلاة القائم خلف من شرع في صلاته قائما ، ثم قعد لعذر ، ويجعلون هذا منه سيما وقد ورد في بعض طرق الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في القراءة من حيث انتهى إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه رواه الدارقطني في سننه ، وأحمد في مسنده ، ( فإن قلت ) : قال ابن القطان في كتابه "الوهم والإيهام" : وهي رواية مرسلة فإنها ليست من رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما رواها ابن عباس عن أبيه العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كذا رواه البزار في مسنده بسند فيه قيس بن الربيع ، وهو ضعيف ، ثم ذكر له مثالب في دينه قال : وكان ابن عباس كثيرا ما يرسل . ( قلت ) رواه ابن ماجه من غير طريق قيس فقال : حدثنا علي بن محمد ، حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأرقم بن شرحبيل ، عن ابن عباس "لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكره إلى أن قال : "قال ابن عباس ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر رضي الله عنه" ، وقال الخطابي ، وذكر أبو داود هذا الحديث من رواية جابر وأبي هريرة وعائشة ، ولم يذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ما صلاها بالناس ، وهو قاعد ، والناس خلفه قيام ، وهذا آخر الأمرين من فعله صلى الله عليه وسلم ، ومن عادة أبي داود فيما أنشأه من أبواب هذا الكتاب أن يذكر الحديث في بابه ، ويذكر الذي يعارضه في باب آخر على إثره ، ولم أجده في شيء من النسخ فلست أدري كيف غفل عن ذكر هذه القصة ، وهي من أمهات السنن ، وإليه ذهب أكثر الفقهاء . ( قلت ) إما تركها سهوا أو غفلة أو كان رأيه في هذا الحكم مثل ما ذهب إليه الإمام أحمد ، فلذلك لم يذكر ما ينقضه ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن في قوله : "إنما جعل الإمام ليؤتم به" دليلا على وجوب المتابعة للإمام في الأفعال حتى في الموقف والنية ، وقال الشافعي وطائفة : لا يضر اختلاف النية ، وجعل الحديث مخصوصا بالأفعال الظاهرة ، وقال أبو حنيفة ومالك : يضر اختلافهما ، وجعلا اختلاف النيات داخلا تحت الحصر في الحديث ، وقال مالك : لا يضر الاختلاف بالهيئة بالتقدم في الموقف ، وجعل الحديث عاما فيما عدا ذلك .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن أبا حنيفة احتج بقوله : "فكبروا" على أن المقتدي يكبر مقارنا لتكبير الإمام لا يتقدم الإمام ولا يتأخر عنه ؛ لأن الفاء للحال ، وقال أبو يوسف ومحمد : الأفضل أن يكبر بعد فراغ الإمام من التكبير ؛ لأن الفاء للتعقيب ، وإن كبر مع الإمام أجزأه عند محمد رواية واحدة ، وقد أساء ، وكذلك في أصح الروايتين عن أبي يوسف ، وفي رواية : لا يصير شارعا ، ثم ينبغي أن يكون اقترانهما في التكبير على قوله : كاقتران حركة الخاتم والإصبع والبعدية على قولهما أن يوصل ألف ( الله ) براء ( أكبر ) ، وقال شيخ الإسلام خواهر زاده : قول أبي حنيفة أدق وأجود ، وقولهما أرفق وأحوط ، وقول الشافعي كقولهما ، وقال الماوردي في تكبيرة الإحرام قبل فراغ الإمام منها : لم تنعقد صلاته ، ولو ركع بعد شروع الإمام في الركوع فإن قارنه أو سابقه فقد أساء ، ولا تبطل صلاته ، فإن سلم قبل إمامه بطلت صلاته إلا أن ينوي المفارقة ففيه خلاف مشهور .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن الفاء في قوله : "فاركعوا" ، وفي قوله : "فاسجدوا" تدل على التعقيب ، وتدل على أن المقتدي لا يجوز له أن يسبق الإمام بالركوع والسجود حتى إذا سبقه فيهما ولم يلحقه الإمام فسدت صلاته .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه استحباب العبادة عند حصول الخدشة ، ونحوها .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه جواز الصلاة جالسا عند العجز ، والله أعلم . .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية