الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو جعل ثمر النخل في قوارير ، وجعل عليها صقرا من صقر نخلها كان لها أخذه ونزعه من القوارير ، فإذا كان إذا نزع فسد ولم يبق منه شيء ينتفع به ، كان لها الخيار في أن تأخذه ، أو تأخذ منه مثله ومثل صقره إن كان له مثل ، أو قيمته إن لم يكن له مثل ، ولو ربه برب من عنده كان لها الخيار في أن تأخذه وتنزع ما عليه من الرب ، أو تأخذ مثل التمر إذا كان إذا خرج من الرب لا يبقى يابسا بقاء التمر الذي لم يصبه الرب أو تغير طعمه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في رجل أصدق امرأة نخلا ، فأخذ ثمرة النخل فجذها وجعلها في قوارير وطرح عليها صقرا .

                                                                                                                                            والصقر : وهو ما سال من دبس الرطب ، ما لم تمسه النار .

                                                                                                                                            والرطب : هو الدبس المطبوخ بالنار .

                                                                                                                                            فلا يخلو حال الثمرة من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن تكون حادثة من النخل بعد الصداق ، أو متقدمة .

                                                                                                                                            فإن كانت حادثة بعد الصداق ، فقد ملكتها ؛ لأنها نماء ملكها ، لأن عقد الصداق تضمنها ، فيكون تصرف الزوج فيها تصرفا في غير الصداق من أموالها .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك ، فالصقر على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون من جملة الثمرة .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون للزوج .

                                                                                                                                            فإن كان الصقر من جملة الثمرة ، فلا يخلو حال الصقر والثمرة من أربعة أحوال :

                                                                                                                                            إحداهن : ألا ينقص الصقر ولا الثمرة بالاختلاط .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن ينقصا معا بالاختلاط .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن ينقص الصقر دون الثمرة .

                                                                                                                                            والحال الرابعة : أن تنقص الثمرة دون الصقر .

                                                                                                                                            فإن لم ينقص الصقر بطرحه على الثمرة ، ولا نقصت الثمرة بطرحها في الصقر ، فلا [ ص: 453 ] ضمان على الزوج فيهما ؛ لأنه وإن تعدى فليس لعدوانه أرش يضمن ، كما لو كان غاصبا وليس بزوج .

                                                                                                                                            فإن زادت قيمتهما بالعمل ، فالزيادة للزوجة دون الزوج ولا أجرة للزوج في عمله ؛ لأنه تبرع به وتعدى فيه .

                                                                                                                                            وإن نقص الصقر بطرحه على الثمرة ، ونقصت الثمرة بطرحها في الصقر ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون قد تناهى نقصهما واستقر ، فللزوجة أن تأخذهما وترجع على الزوج بأرش نقصانهما ، ولا خيار لها في الصقر والثمرة ؛ لأنه نقص في مغصوب قد جبر بالأرش .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون نقصهما لم يتناه ولم يستقر ، وكلما مر عليهما وقت بعد وقت حدث فيهما نقص بعد نقص ، ففيه قولان كالغاصب للطعام إذا بله وكان نقصه لا يتناهى فهو على قولين ، كذلك هذا :

                                                                                                                                            أحد القولين - وهو الظاهر من منصوص الشافعي - : أنه يصير كالمستهلك ، فيكون للزوجة أن تطالبه بمثل الثمرة إن كانت ثمرا له مثل ، وبمثل الصقر إن كان سيلانا لم تمسه النار ولا خالطه الماء وإن لم يكن لهما مثل ؛ لأن الثمرة كانت رطبا والصقر قد مسته النار أو خالطه الماء ، فلها الرجوع بقيمة الصقر وقيمة الثمر .

                                                                                                                                            وإن كان لأحدهما مثل وليس للآخر مثل ، رجعت بمثل ذي المثل ، وقيمة غير ذي المثل ، فلو رضيت الزوجة بنقصان ثمرتها وصقرها ، أقرت عليها ولم ترجع ببدلهما .

                                                                                                                                            والقول الثاني - وهو تخريج الربيع ، وهو أصح القولين عندي - : أنهما لا يصيران مع بقاء العين مستهلكين ، وما يحدث من النقصان فيما بعد فمظنون مجوز ، وربما أرادت الزوجة أكل ذلك واستهلاكه قبل نقصانه .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك رجعت بأرش نقصهما في الحال ، ثم كلما حدث فيهما نقص رجعت بأرشه وقتا بعد وقت .

                                                                                                                                            فإن أخذت منه أرش نقصهما في الحال وأبرأته من أرش نقصهما في ثاني حال ، ففي صحة براءته منه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يصح ؛ لأنه أبرئ مما لم يجب .

                                                                                                                                            والثاني : يصح ، ويكون الإبراء كالإذن .

                                                                                                                                            وهذان الوجهان من اختلاف وجهي أصحابنا فيمن حفر بئرا في أرض لا يملكها فأبرأه المالك من ضمان ما يقع فيها .

                                                                                                                                            فهذا حكم نقص الثمرة والصقر .

                                                                                                                                            فأما إن نقص الصقر دون الثمرة : فلها أخذ الثمرة ، ويضمن نقص الصقر على ما مضى .

                                                                                                                                            [ ص: 454 ] وأما إن نقصت الثمرة دون الصقر ، فلا ضمان عليه في الصقر ، ويضمن نقص الثمرة على ما مضى .

                                                                                                                                            فصل : وأما الضرب الثاني : وهو أن يكون الصقر للزوج ، فيطرحه على ثمرة الزوجة ، فلا اعتبار بنقص الصقر ؛ لأنه ماله ، وبفعله نقص .

                                                                                                                                            فأما الثمرة ، فلها أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون تركها في الصقر غير مضر ، وإخراجها منه غير مضر : فلا ضمان عليه في الثمرة ، وعليه إخراج صقره منها ، ومئونة إخراجه عليه دونها .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يكون تركها فيه مضرا ، وإخراجها منه مضرا ، فهو ضامن ، ويعتبر حال النقصان : فإن كان قد تناهى واستقر ، رد الثمرة وضمن أرش النقص ، وإن لم يتناه ولم يستقر ، فعلى ما ذكرنا من القولين :

                                                                                                                                            أحدهما : يصير كالمستهلك ، فيضمنها بالمثل إن كان لها مثل ، وبالقيمة إن لم يكن لها مثل .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يضمن أرش كل نقص يحدث في وقت بعد وقت .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يكون تركها فيه مضرا ، وإخراجها منه غير مضر ، فيؤخذ جبرا بإخراجها منه ، ولا أرش عليه .

                                                                                                                                            والحال الرابعة : أن يكون تركها فيه غير مضر ، وإخراجها منه مضرا ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تكون الثمرة إذا أخرجت من الصقر صلحت لما لا تصلح له الثمرة إذا كانت في الصقر ، فأيهما دعا إلى إخراجها منه أجيب ، فإن أراد الزوج أخذ صقره كان عليه نقص الثمرة ، على ما ذكرنا من اعتبار حال النقصان في التناهي ، وإن أرادت الزوجة إخراج ثمرتها من الصقر أخذ الزوج بإخراجها وضمن نقصانها على ما مضى .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تكون الثمرة في الصقر تصلح لما لا تصلح له الثمرة إذا كانت خارجة من الصقر .

                                                                                                                                            فإن أراد الزوج صقره : لم يجبر على تركه ، وعليه إخراجه ، وعليه نقص الثمرة على ما مضى .

                                                                                                                                            وإن ترك صقره عليها : ففي إجبار الزوجة على قبوله وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا تجبر على القبول ؛ لأنها هبة غير متميزة ، ولها أن تأخذ الزوج بإخراج الثمرة وضمان نقصها .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : تجبر على القبول ؛ لأنه جبران نقص ، ودفع ضرر ، وليس بهبة محضة . فهذا أحد شطري المسألة .

                                                                                                                                            فصل : وأما الشطر الثاني من المسألة : وهو أن تكون الثمرة موجودة على رءوس نخلها [ ص: 455 ] وقت الصداق ، ويجعلهما جميعا صداقا ، ثم يجد الثمرة ويجعلها في الصقر على ما ذكرنا . فهذا على ضربين أيضا :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون الصقر من الثمرة .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون للزوج .

                                                                                                                                            فإن كان من الثمرة ، نظر ؛ فإن لم ينقص الصقر ولا الثمرة ، فلا غرم على الزوج ، ولا خيار للزوجة .

                                                                                                                                            وإن نقصا أو أحدهما : ترتب الحكم على اختلاف قوليه في تلف الصداق ، هل يوجب غرم القيمة أو مهر المثل ؟ .

                                                                                                                                            فإن قيل بالقديم إنه موجب للقيمة : فلا خيار للزوجة ؛ لأنه نقص مضمون بجناية ، وإنما يجب الخيار لها فيما لا يضمن بالجناية ليكون مضمونا بالفسخ ، فتأخذ الصقر والثمرة وترجع بأرش نقصها إن تناهى ، وإن لم يكن قد تناهى فعلى ما مضى من القولين .

                                                                                                                                            وإن قيل بالجديد إن تلف الصداق موجب لمهر المثل : فهي بالنقص الحادث في الثمرة بالخيار بين المقام والفسخ .

                                                                                                                                            وهل يكون لها الخيار بالنقص الحادث في الصقر أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لها فيه الخيار أيضا ؛ لأنه نقص فيما هو من جملة الصداق .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا خيار لها ؛ لأنه وقت الصداق لم يكن صقرا فينفسخ بنقصانه ، وإنما كانت ثمرة صارت صقرا زائدا ، فإذا نقصت الزيادة التي لم يتضمنها الصداق لم يثبت لها خيار في الصداق اعتبارا بنقصان الولد الحادث ، فإذا ثبت لها الخيار بما ذكرنا ، فهي بالخيار بين أمرين :

                                                                                                                                            إما أن تقيم على الكل ، وإما أن تفسخ في الكل .

                                                                                                                                            فإن أقامت على الكل : أخذت النخل والثمرة والصقر ، ولا أرش لها سواء كان النقص متناهيا أم لا .

                                                                                                                                            وإن فسخت في الكل ردت النخل والثمرة والصقر ، ورجعت بمهر المثل زائدا كان أو ناقصا .

                                                                                                                                            فأما إن أرادت الفسخ في الثمرة والصقر لنقصهما والمقام على النخيل .

                                                                                                                                            فإن راضاها الزوج على ذلك جاز ، وإن أبى ففيه قولان من تفريق الصفقة :

                                                                                                                                            أحدهما : ليس لها ذلك إذا قيل : إن تفريق الصفقة لا يجوز ، ويقال لها : إما أن تقيمي على الكل أو تفسخي في الكل .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يجوز لها ذلك إذا قيل : إن تفريق الصفقة يجوز ، فتقيم على النخيل بحسابه من الصداق وقسطه ، وترجع بقسط ما بقي في مقابلة الثمرة من مهر المثل .

                                                                                                                                            [ ص: 456 ] فصل : وأما الضرب الثاني : وهو أن يكون الصقر للزوج ، فإن لم تنقص الثمرة بتركها فيه ولا بإخراجها منه ، فلا خيار لها ولا غرم عليه .

                                                                                                                                            فإن نقصت كان على القديم ضامنا لأرش نقصها ، ولا خيار لها . وعلى الجديد لا أرش لها ، وتكون بالخيار بين الفسخ في جميع الصداق والرجوع بمهر المثل ، أو المقام عليه من غير أرش .

                                                                                                                                            فإن أرادت الفسخ في الثمرة لنقصها ، والمقام على النخل ، فعلى ما ذكرنا من القولين في تفريق الصفقة .

                                                                                                                                            فإن طالبت بمثل الثمرة الناقصة لم يكن لها ذلك سواء قيل : إن تلف الصداق موجب لقيمته ، أو قيل : إنه موجب لمهر المثل ؛ لأنه إن قيل بوجوب مهر المثل ، فلا وجه للمثل ولا للقيمة ، وإن قيل بوجوب القيمة أو مثل ذي المثل فذاك إنما يكون مع التلف كالمستهلك بالغصب .

                                                                                                                                            فأما في نقصانه مع بقائه ، فلا حق في الرجوع بمثله كالمغصوب إذا نقص في يد غاصبه .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد نقل المزني عن الشافعي في سواد هذه المسألة كان لها الخيار في أن تأخذه أو تأخذ مثله أو مثل صقره .

                                                                                                                                            قيل : قد كان أبو حامد الإسفراييني ينسب المزني إلى السهو في نقله . وأنه خطأ منه في الحكم ؛ لأن أصول الشافعي تدفعه على ما ذكرنا .

                                                                                                                                            والذي أراه : أن نقل المزني صحيح ، ولم يكن منه سهو فيه ، ولكنه محمول على النقص الذي لا يتناهى على أحد قولي الشافعي إذا كان في الثمرة الحادثة بعد العقد ، أو في المتقدمة إذا قيل بالقديم إن تلفه موجب بمثل ذي المثل ، وقيمة غير ذي المثل فيكون عدم التناهي في نقصانه موجبا للرجوع بمثله في أحد قولي الشافعي ؛ لأنه يجعله بعد تناهي نقصانه كالمستهلك ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية