الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      2 - تفاضل أهل الإيمان .


      وأهله فيه على تفاضل هل أنت كالأملاك أو كالرسل

      .

      هذه هي المسألة الثانية ، وهي تفاضل أهل الإيمان فيه ، كما ذكر الله - تبارك [ ص: 1008 ] وتعالى - أقسامهم التي قسمهم عليها بمقتضى حكمته ، فقال تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) ، ( فاطر 32 ) الآيات .

      فقسم تعالى الناجين منهم إلى مقتصدين ، وهم الأبرار أصحاب اليمين ، الذين اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات ، فلم يزيدوا على ذلك ولم ينقصوا منه ، وإلى سابق بالخيرات ، وهم المقربون الذين تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ، وتركوا ما لا بأس به خوفا مما به بأس ، وما زالوا يتقربون إلى الله تعالى بذلك حتى كان سمعهم الذي يسمعون به ، وبصرهم الذي يبصرون به ، إلى آخر معنى الحديث السابق ، فبه يسمعون وبه يبصرون ، وبه يبطشون وبه يمشون ، وبه ينطقون وبه يعقلون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون . وأما الظالم لنفسه ففي المراد به عن السلف الصالح قولان :

      ( أحدهما ) : أن المراد به الكافر ، فيكون كقول الله - عز وجل - في تقسيمهم في سورة الواقعة عند البعث ( وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون ) ، ( الواقعة 7 - 11 ) إلى آخر الآيات .

      وقسمهم عند الاحتضار كذلك ، فقال - عز وجل : ( فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم ) ، ( الواقعة 88 - 94 ) ، فإن تفاضل أهل الإيمان في تقسيم هذه السورة ، إنما هو على درجتين : سابقين مقربين ، وأبرار هم أصحاب اليمين . وأما أصحاب الشمال الذين هم المكذبون الضالون ، فليسوا من أهل الإسلام باتفاق ، وإنما الخلاف في الظالم نفسه في آية فاطر .

      والقول الثاني : أن المراد به عصاة الموحدين ، فإنهم ظالمون لأنفسهم ، ولكن ظلم دون ظلم ، لا يخرج من الدين ولا يخلد في النار ، فعلى هذا يكون قسم [ ص: 1009 ] ثالث في تفاضل أهل الإيمان . ورجح هذا القول ابن القيم - رحمه الله تعالى ، فإذا كان هذا التفاوت بين أتباع الرسل ، فكيف تفاوت ما بينهم وبين رسلهم ، وقد ذكر الله - تبارك وتعالى - أن الرسل متفاضلون ، فقال : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ) ، ( البقرة 253 ) ، وقد تقدم تقرير ذلك في موضعه .

      وكما أخبر الله - تبارك وتعالى - عن تفاوتهم في الإيمان في دار التكليف ، كذلك جعل الجنة التي هي دار الثواب متفاوتة الدرجات مع كون كل منهم فيها ، فقال في سورة الرحمن : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ، ( الرحمن 46 - 59 ) إلى آخر السورة .

      وكذا في سورة الواقعة أخبر بصفة الجنة التي يدخلها السابقون أعظم وأعلى من صفات الجنة التي يدخلها أصحاب اليمين ، وكذلك في سورة المطففين ، قال - تبارك وتعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون ) ، ( المطففين 22 - 28 ) وغير ذلك من الآيات .

      وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن .

      [ ص: 1010 ] وأهل الجنة متفاوتون في الدرجات ، حتى إنهم يتراءون ، أهل عليين يرون غرفهم من فوقهم كما يرى الكوكب في الأفق الشرقي أو الغربي ، ومتفاوتون في الأزواج ، ومتفاوتون في الفواكه من المطعوم والمشروب ، ومتفاوتون في الفرش والملبوسات ، ومتفاوتون في الملك ، ومتفاوتون في الحسن والجمال والنور ، ومتفاوتون في قربهم من الله - عز وجل ، ومتفاوتون في تكثير زيارتهم إياه ، ومتفاوتون في مقاعدهم يوم المزيد ، ومتفاوتون تفاوتا لا يعلمه إلا الله - عز وجل .

      وقد قدمنا أحاديث الشفاعة وفيها أن عصاة الموحدين الذين تمسهم النار بقدر ذنوبهم متفاوتون تفاوتا بعيدا : متفاوتون في مقدار ما تأخذ منهم ، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه ، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه ، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ، ومنهم من تأخذه كله إلا مواضع السجود .

      وكذلك يتفاوتون في مقدار لبثهم فيها ، وسرعة خروجهم منها ; لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد ، الذي بسببه يخرجون منها ، ولولاه لكانوا مع الكافرين خالدين مخلدين أبدا . فيقال للشفعاء : أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان ، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان ، ثم من كان في قلبه وزن برة من إيمان ، ثم من كان في قلبه ذرة من إيمان ، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال ذرة من إيمان ، فأين هذا ممن الإيمان في قلبه مثل الجبل العظيم ؟ ! وأين من نوره على الصراط كالشمس ، ممن نوره على إبهام قدمه ينونص تارة ويطفأ أخرى ؟ ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) ، ( القلم 36 ) .

      وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : بينا أنا نائم ، رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص ، فمنها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما يبلغ دون ذلك ، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره ، قالوا " فما أولته يا رسول الله ؟ قال : الدين .

      وقال ابن أبي مليكة : أدركت [ ص: 1011 ] ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول : إنه على إيمان جبريل وميكائيل . ذكره البخاري تعليقا مجزوما به .

      وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : ملئ عمار إيمانا إلى مشاشه ، وقال - صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح .

      وقرأ الفضيل بن عياض - رحمه الله - أول الأنفال حتى بلغ ( أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) ، ( الأنفال 4 ) قال حين فرغ : إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل ، وأن المؤمن إذا كان مؤمنا حقا ، فهو من أهل الجنة ، فمن لم يشهد أن المؤمن حقا من أهل الجنة ، فهو شاك في كتاب الله مكذب به ، أو جاهل لا يعلم ، فمن كان على هذه الصفة ، فهو مؤمن حقا مستكمل الإيمان ، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل ، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمنا حقا حتى يؤثر دينه على شهوته ، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه . يا سفيه ، ما أجهلك ، لا ترضى أن تقول : أنا مؤمن حتى [ ص: 1012 ] تقول : أنا مؤمن حقا مستكمل الإيمان . والله ، لا تكون مؤمنا حقا مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك ، وتجتنب ما حرم الله عليك ، وترضى بما قسم الله لك ، ثم تخاف مع هذا أن لا يقبل الله منك .

      ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل ، وقرأ ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) ، ( البينة 5 ) ، فقد سمى الله تعالى دين القيمة بالقول والعمل ، فالقول الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم ، والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم ، وقرأ ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ) ، ( مريم 55 ) ، وقال : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا ) ، ( الشورى 13 ) ، فالدين التصديق بالعمل كما وصفه الله تعالى ، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته ، والتفرق فيه ترك العمل والتفريق بين القول والعمل ، قال الله - تبارك وتعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) ، ( التوبة 11 ) ، فالتوبة من الشرك جعلها الله تعالى قولا وعملا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .

      وقال أصحاب الرأي : ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان ، افتراء على الله وخلافا لكتابه وسنة نبيه ، ولو كان القول كما يقولون ، لم يقاتل أبو بكر أهل الردة .

      وقال فضيل : يقول أهل البدع : الإيمان الإقرار بلا عمل ، والإيمان واحد ، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان . قال : فمن قال ذلك ، فقد خالف الأثر ، ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أفضلها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان .

      وتفسير من يقول الإيمان لا يتفاضل ، يقول : إن فرائض [ ص: 1013 ] الله ليست من الإيمان ، فميز أهل البدع العمل من الإيمان ، وقالوا : إن فرائض الله ليست من الإيمان ، ومن قال ذلك ، فقد أعظم الفرية ، أخاف أن يكون جاحدا للفرائض ، رادا على الله أمره .

      ويقول أهل السنة : إن الله تعالى قرر العمل بالإيمان ، وإن فرائض الله من الإيمان . قال تعالى : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، ( العنكبوت 7 ) ، فهذا موصول العمل بالإيمان .

      ويقول أهل الإرجاء : لا ، ولكنه مقطوع غير موصول .

      وقال أهل السنة : قال الله تعالى : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ) ، ( النساء 124 ) فهذا موصول ، وأهل الإرجاء يقولون : بل هو مقطوع .

      وقال أهل السنة : قال الله تعالى : ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ) ، ( الإسراء 19 ) فهذا موصول ، وكل شيء في القرآن من أشباه هذا ، فأهل السنة يقولون : هو موصول مجتمع ، وأهل الإرجاء يقولون : بل هو مقطوع متفرق ، ولو كان الأمر كما يقولون ، كان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل ، فكان إقراره يكفيه من العمل ، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

      وقال فضيل : أصل الإيمان عندنا وفرعه بعد الشهادة لله بالتوحيد ، والشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالبلاغ ، وبعد أداء الفرائض ، صدق الحديث ، وحفظ الأمانة ، وترك الخيانة ، والوفاء بالعهد ، وصلة الرحم ، والنصيحة لجميع المسلمين ، والرحمة للناس عامة .

      قيل له - يعني : فضيلا - هذا من رأيك ، تقوله أو سمعته ؟ قال : بل سمعناه وتعلمناه ، ولو لم آخذه من أهل الفقه والفضل ، لم أتكلم به . وقال فضيل : يقول أهل الإرجاء : الإيمان قول بلا عمل ، ويقول الجهمية : الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل ، ويقول أهل السنة : الإيمان المعرفة والقول والعمل ، فمن قال الإيمان قول وعمل ، فقد أخذ بالوثيقة ، ومن قال الإيمان قول بلا عمل ، فقد خاطر ; لأنه لا [ ص: 1014 ] يدري ، أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه ؟ وقال - يعني فضيلا : قد بينت لك إلا أن تكون أعمى .

      وقال فضيل : لو قال لي رجل : مؤمن أنت ؟ ما كلمته ما عشت . وقال : إذا قلت آمنت بالله ، فهو يجزيك من أن تقول أنا مؤمن ، وإذا قلت أنا مؤمن ، لا يجزيك من أن تقول آمنت بالله ; لأن آمنت بالله أمر . قال الله تعالى : ( قولوا آمنا بالله ) ، ( البقرة 136 ) الآية ، وقولك أنا مؤمن تكلف ، لا يضرك أن لا تقوله ، ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار ، وأكرهه على وجه التزكية .

      وقال فضيل : سمعت الثوري يقول : من صلى إلى هذه القبلة ، فهو عندنا مؤمن ، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار في المواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك ، ولهم ذنوب وخطايا ، الله حسبهم ، إن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم ، لا ندري ما لهم عند الله - عز وجل .

      وقال فضيل : سمعت المغيرة الضبي يقول : من شك في دينه ، فهو كافر ، وأنا مؤمن إن شاء الله .

      قال فضيل : الاستثناء ليس بشك ، وقال فضيل : المرجئة كلما سمعوا حديثا فيه تخويف ، قالوا : هذا تهديد ، وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده ويرجو وعده ، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده ولا يرجو وعده .

      وقال فضيل : الأعمال تحبط الأعمال ، والأعمال تحول دون الأعمال . قال عبد الله : قال أبي : أخبرت ، عن فضيل ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ، ( البقرة 269 ) ، قال : الفقه والعلم ، اه من كتاب السنة .

      وفيه عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال : القلوب أربعة : قلب أجرد كأنما [ ص: 1015 ] فيه سراج يزهر ، فذلك قلب المؤمن ، وقلب أغلف ، فذلك قلب الكافر ، وقلب مصفح ، فذلك قلب المنافق ، وقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء طيب ، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم ، فأيهما غلب عليه غلبه ، اه . وهذا الموقوف قد روي مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد جيد حسن ، فقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى : حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا شيبان ، عن ليث ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح ، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن ، سراجه فيه نوره ، وأما القلب الأغلف ، فقلب الكافر ، وأما القلب المنكوس ، فقلب المنافق ، عرف ثم أنكر ، وأما القلب المصفح ، فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح ، فأي المادتين غلبت على الأخرى ، غلبت عليه .

      والآيات والأحاديث وآثار الصحابة والتابعين في هذا الباب أكثر من أن تحصر ، وأشهر من أن تذكر ، والمقصود بيان أن الناس متفاوتون في الدين بتفاوت الإيمان في قلوبهم ، متفاضلون فيه بحسب ذلك ، فأفضلهم وأعلاهم أولو العزم من الرسل ، وأدناهم المخلطون من أهل التوحيد ، وبين ذلك مراتب ودرجات لا يحيط بها إلا الله - عز وجل - الذي خلقهم ورزقهم ، وكما يتفاوتون في مبلغ الإيمان من قلوبهم ، يتفاوتون في أعمال الإيمان الظاهرة ، بل والله ، يتفاضلون في عمل واحد يعمله كلهم في آن واحد وفي مكان واحد ، فإن الجماعة في الصلاة صافون كلهم في رأي العين ، مستوون في القيام والركوع والسجود ، والخفض والرفع ، والتكبير والتحميد ، والتسبيح والتهليل ، والتلاوة وسائر الأذكار ، والحركات والسكنات ، في مسجد واحد ، ووقت واحد وخلف إمام واحد ، وبينهم من التفاوت [ ص: 1016 ] والتفاضل ما لا يحصى ، فهذا قرة عينه في الصلاة ، يود إطالتها ما دام عمره ، وآخر يرى نفسه في أضيق سجن ، يود انقضاءها في أسرع من طرفة عين ، أو يود الخروج منها ، بل يتندم على الدخول فيها ، وهذا يعبد الله على وجه الحضور والمراقبة ، كأنه يشاهده ، وآخر قلبه في الفلوات ، قد تشعبت به الضيعات وتفرقت به الطرقات ، حتى لا يدري ما يقول ولا ما يفعل ولا كم صلى ، وهذا ترفع صلاته تتوهج بالنور حتى تخترق السماوات إلى عرش الرحمن - عز وجل ، وهذا تخرج مظلمة لظلمة قلبه ، فتغلق أبواب السماء دونها ، فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها ، وهذا يكتب له أضعافها وأضعاف مضاعفة ، وهذا يخرج منها وما كتب له إلا نصفها إلا ربعها إلا ثمنها إلا عشرها ، وهذا يحضرها صورة ولم يكتب له منها شيء ، وهذا منافق يأتيها رئاء الناس ، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر .

      هذا والناظر إليهم يراهم مستوين في فعلها ، ولو كشف له الحجاب ، لرأى من الفرقان ما لا يقدر قدره إلا الله ، الرقيب على كل نفس بما كسبت ، الذي أحاط بكل شيء علما لا تخفى عليه خافية ، وكذلك الجهاد ، ترى الأمة من الناس يخرجون فيه مع إمام واحد ، ويقاتلون عدوا واحدا على دين واحد ، متساوين ظاهرا في القوى والعدد ، فهذا يقاتل حمية وعصبية ، وهذا يقاتل رياء وسمعة ; لتعلم شجاعته ويرى مكانه ، وهذا يقاتل للمغنم ليس له هم غيره ، وهذا يقاتل ; لتكون كلمة الله هي العليا ، وذا هو المجاهد في سبيل الله لا لغيره ، وهذا هو الذي يكتب له بكل حركة أو سكون أو نصب أو مخمصة عمل صالح .

      وهكذا الزكاة والصوم والحج ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجميع أعمال الإيمان ، الناس فيها على هذا التفاوت والتفاضل بحسب ما وقر في قلوبهم من العلم واليقين ، وعلى ذلك يموتون ، وعليه يبعثون ، وعلى قدره يقفون في عرق الموقف ، وعلى ذلك الوزن والصحف ، وعلى ذلك تقسم الأنوار على الصراط ، وبحسب ذلك يمرون عليه ، ومن يبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ، وبذلك يتسابقون في دخول الجنة ، وعلى حسبه رفع درجاتهم ، وبقدره تكون مقاعدهم من ربهم - تبارك وتعالى - في يوم المزيد ، وبمقدار ذلك ممالكهم فيها ونعيمهم ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية