الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
( ذكر قول النمل ) : قال الله تعالى : ( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس ) إلى قوله : ( فتبسم ضاحكا من قولها ) فأخبر الله سبحانه عن النمل أنه ركب فيه مثل هذا الشعور والنطق ولاسيما هذه النملة التي جمعت في هذا الخطاب بين النداء والتعيين والتنبيه والتخصيص والأمر ، وإضافة المساكن إلى أربابها والتجائهم إلى مساكنهم فلا يدخلون على غيرهم من الحيوانات مساكنهم ، والتحذير والاعتذار بأوجز خطاب وأعذب لفظ . ولذلك حمل سليمان عليه السلام التعجب من قولها على التبسم وأحرى بهذه النملة وأخواتها من النمل أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية . وقد دل هذا على ما رواه الطبراني في معجمه قال : حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن سليمان عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة أحد قوائمها تستسقي فقال لأصحابه : ارجعوا لقد سقيتم إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها ، قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع قال : حدثنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان بن داود عليهما السلام [ ص: 329 ] يستسقي بالناس فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك فإما أن تسقينا أو تهلكنا قال سليمان عليه السلام للناس ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ، ورواه الطحاوي والطبراني أيضا من حديث أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان عليه السلام يستسقي فمر بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك اللهم فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا ، فقال : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ، هذا لفظ رواية الطبراني ، ولفظ الطحاوي فإذا هو بنملة قائمة على رجلها رافعة يديها تقول : اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم فقال سليمان لأصحابه : ارجعوا فقد سقيتم ( بدعوة غيركم ) ، ورواه الحافظ أبو الحسن الدارقطني في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج نبي من الأنبياء يستسقي فمر بنملة مستلقية على ظهرها رافعة يديها إلى السماء تستسقي فقال لأصحابه : ارجعوا فقد سقيتم .

وفي هذا الباب قصة حمر الوحش المشهورة التي ذكرها غير واحد أنها انتهت إلى الماء لترده فوجدت الناس حوله فتأخرت عنه فلما جهدها العطش رفعت رأسها إلى السماء وجأرت إلى الله سبحانه بصوت واحد فأرسل الله سبحانه عليها السماء بالمطر حتى شربت وانصرفت . وذكر شيخ الإسلام الهروي بإسناده عن عبد الله بن وهب قال : [ ص: 330 ] أكرموا البقر فإنها لم ترفع رأسها إلى السماء منذ عبد العجل حياء من الله عز وجل ، وقد روي مرفوعا عن ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن أبي هند عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكرموا البقر فإنها سيدة البهائم ، ما رفعت طرفها إلى السماء حياء من الله عز وجل منذ عبد العجل ، قلت : ولا يثبت رفعه فإن أبا هند مجهول . والمقصود أن هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها الحيوان وغيره ، حتى أبلد الحيوانات الذي نضرب ببلادته المثل وهو البقر .

فصل : ولعل قائلا يقول : كيف يحتج علينا في هذه المسألة بأقوال من حكيت قوله ممن ليس قوله حجة فأجلبت . . . بها ، ثم لم تقنع بذلك حتى ذكرت أقوال الشعراء ، ثم لم يكفك ذلك حتى جئت ( بأقوال ) الجن ثم لم تقتصر حتى استشهدت بالنمل وحمر الوحش ، فأين الحجة في ذلك كله ؟ وجواب هذا القائل أن نقول : قد علم أن كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وسائر أنبيائه عليهم السلام والصحابة والتابعين رضي الله عنهم ليس حجة عندكم في هذه المسألة إذ غاية أقوالهم عندهم أن تكون ظواهر سمعية وأدلة لفظية معزولة عن اليقين ، متواترها يدفع بالتأويل وآحادها يقابل بالتكذيب فنحن لم نحتج عليكم بما حكيناه وإنما كتبناه لأمور منها أن يعلم بعض ما في الوجود ويعلم الحال من هو بها جاهل ، [ ص: 331 ] ومنها أن نعلم أن أهل الإثبات أولى بالله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الإسلام وطبقات أهل العلم والذين من الجهمية والمعطلة ، ومنها أن نعرف الجهمي النافي لمن خالف من طوائف المسلمين وعلى من شهد بالتشبيه والتمثيل وعلى من استحل بالتكفير وعرض من مزق من الأئمة . ومنها أن نعرف عساكر الإسلام والسنة وأمراءها وعساكر البدع والتجهم ليتحيز المقاتل إلى إحدى الفئتين على بصيرة من أمره ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ) ومنها أن نعرف الجهمي النافي لمن قد بارز بالعداوة وبغى الغوائل وأسعر نار الحرب ، ونصب القتال ، أفيظن أفراخ المعتزلة ومخانيث الجهمية ومقلدو اليونان أن يضعوا لواء رفعه الله تعالى ، وينكسوا علما نصبه الله تعالى ، ويهدموا بناء شاده الله ورفعه ويقلقوا جبالا راسيات شادها وأرساها ، ويطمسوا كواكب نيرات أنارها وأعلاها هيهات هيهات بئسما سولت لهم أنفسهم لو كانوا يعلمون ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) .

( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) ، ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) ولو شئنا لأتينا على هذه المسألة بألف دليل ، ولكن هذه نبذة يسيرة وجزء قليل من كثير لا يقال له قليل : ( ومن يهد الله فهو المهتدي ) ( ومن يضلل الله فما له من سبيل ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية