الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4348 ) فصل : في القطائع ، وهي ضربان أحدهما إقطاع إرفاق ، وذلك إقطاع مقاعد السوق ، والطرق الواسعة ، ورحاب المساجد ، التي ذكرنا أن للسابق إليها الجلوس فيها ، فللإمام إقطاعها لمن يجلس فيها ; لأن له في ذلك اجتهادا ، من حيث إنه لا يجوز الجلوس إلا فيما لا يضر بالمارة ، فكان للإمام أن يجلس فيها من لا يرى أنه يتضرر بجلوسه . ولا يملكها المقطع بذلك ، بل يكون أحق بالجلوس فيها من غيره ، بمنزلة السابق إليها من غير إقطاع

                                                                                                                                            سواء ، إلا في شيء واحد ، وهو أن السابق إذا نقل متاعه عنها ، فلغيره الجلوس فيها ; لأن استحقاقه لها بسبقه إليها ، ومقامه فيها ، فإذا انتقل عنها ، زال استحقاقه ، لزوال المعنى الذي استحق به ، وهذا استحق بإقطاع الإمام ، فلا يزول حقه بنقل متاعه ، ولا لغيره الجلوس فيه ، وحكمه في التظليل على نفسه بما ليس بناء ، ومنعه من البناء ، ومنعه إذا طال مقامه ، حكم السابق ، على ما أسلفناه . الثاني إقطاع موات من الأرض لمن يحييها

                                                                                                                                            ، فيجوز ذلك ; لما روى وائل بن حجر ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا ، فأرسل معاوية أن أعطه إياه ، أو أعلمه إياه . } حديث صحيح

                                                                                                                                            وأقطع بلال بن الحارث المزني ، وأبيض بن حمال المأربي ، وأقطع الزبير حضر فرسه ، فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه ، فقال : " أعطوه من حيث وقع السوط " . رواه سعيد ، وأبو داود .

                                                                                                                                            وذكر البخاري ، عن أنس قال : { دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع لهم [ ص: 337 ] بالبحرين . فقالوا : يا رسول الله : إن فعلت ، فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها } . وروي أن أبا بكر أقطع طلحة بن عبيد الله أرضا ، وأن عثمان أقطع خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ; الزبير ، وسعدا ، وابن مسعود ، وأسامة بن زيد ، وخباب بن الأرت . ويروى عن نافع أبي عبد الله ، أنه قال لعمر : إن قبلنا أرضا بالبصرة ، ليست من أرض الخراج ، ولا تضر بأحد من المسلمين ، فإن رأيت أن تقطعنيها أتخذ فيها قصيلا لخيلي ، فافعل . قال : فكتب عمر إلى أبي موسى : إن كانت كما يقول ، فأقطعها إياه روى هذه الآثار كلها أبو عبيد ، في " الأموال " .

                                                                                                                                            وروى سعيد ، عن سفيان ، عن أبي نجيح ، عن عمرو بن شعيب ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع ناسا من جهينة أو مزينة أرضا } . إذا ثبت هذا ، فإن من أقطعه الإمام شيئا من الموات ، لم يملكه بذلك ، لكن يصير أحق به ، كالمتحجر للشارع في الإحياء ، بدليل ما ذكرنا من حديث بلال بن الحارث ، حيث استرجع عمر منه ما عجز عن إحيائه من العقيق ، الذي أقطعه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو ملكه لم يجز استرجاعه . ورد عمر أيضا قطيعة أبي بكر لعيينة بن حصن ، فسأل عيينة أبا بكر أن يجدد له كتابا فقال : والله لا أجدد شيئا رده عمر رواه أبو عبيد .

                                                                                                                                            لكن المقطع يصير أحق به من سائر الناس ، وأولى بإحيائه ، فإن أحياه ، وإلا قال له السلطان : إن أحييته ، وإلا فارفع يدك عنه . كما قال عمر لبلال بن الحارث المزني : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجبه دون الناس ، وإنما أقطعك لتعمر ، فخذ منها ما قدرت على عمارته ، ورد الباقي .

                                                                                                                                            وإن طلب المهلة لعذر ، أمهل بقدر ذلك . وإن طلبها لغير عذر ، لم يمهل ، على ما ذكرنا في المتحجر

                                                                                                                                            وإن سبق غيره فأحياه قبل أن يقال له شيء ، أو في مدة المهلة ، فهل يملكه ؟ على وجهين وقد روي عن عمرو بن شعيب ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع ناسا من جهينة أو مزينة أرضا ، فعطلوها ، فجاء قوم فأحيوها ، فخاصمهم الذين أقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه فقال عمر : لو كانت قطيعة مني ، أو من أبي بكر ، لم أردها ، ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا أردها } ، فدل هذا على أنها إذا كانت قطيعة من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي لمن أحياها . والثاني ، لا يملكه ; لأنه تعلق به حق المقطع ، ومفهوم قوله عليه السلام : { من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم ، فهي له }

                                                                                                                                            أنه إذا تعلق بها حق مسلم ، لم يجز إحياؤها . وقد ذكرنا الوجهين في المتحجر ، وهذا مثله . ومذهب الشافعي في هذا الفصل كنحو ما ذكرنا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية