الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا ارتهن الوصي متاعا لليتيم في دين استدانه عليه ، وقبضه المرتهن ثم إن الوصي استعاده من المرتهن لحاجة اليتيم فضاع في يد الوصي فقد خرج من الرهن ; لأن الوصي فيما يتصرف لليتيم قائم مقامه أن لو كان بالغا ، ولو كان بالغا فرهن متاعه بنفسه ثم استعاده من المرتهن فهلك في يده لم يسقط الدين ; لأنه عند هلاك الرهن يصير المرتهن مستوفيا ، ولا يمكن أن يجعل صاحب الدين مستوفيا دينه باعتبار المديون .

( ألا ترى ) أن حكم الرهن لا يثبت بيد الراهن في الابتداء إذا جعل عدلا فيه ، فكذلك لا تبقى حكم يد الاستيفاء بعد ما رجع الرهن إلى الراهن ، وإذا لم يسقط الدين بهلاكه رجع المرتهن على الوصي بالدين ، كما كان يرجع به قبل الرهن ، ويرجع به الوصي على اليتيم ، وقد ضاعت العين من مال اليتيم ; لأنه إنما استعارها لحاجة اليتيم ، وإذا رهن الوصي متاع اليتيم في نفقة اليتيم فأقر بذلك بعد بلوغه ، وأراد أن يبطل الرهن فليس له ذلك ; لأنه تصرف نفذ من الوصي في حال قيام ولايته ولزم ، فلا يملك اليتيم إبطاله بعد بلوغه كالبيع ، ولا يجوز للوصي أن يرهن متاع اليتيم من ابن له صغير أو من عبد له بآخر ليس عليه دين كان يرهنه من نفسه ; لأنه في حق الابن الصغير هو الذي يباشر التصرف من الجانبين ، وكسب العبد الذي لا دين عليه ملك لمولاه فرهنه منه كرهنه من نفسه ، وإن رهنه من ابن له كبير ، أو من أبيه أو من مكاتبه أو عبد له بآخر عليه دين جاز ; لأنه من كسبهم [ ص: 102 ] بمنزلة الأجنبي ، وهم أحق بالكسب منه يصرفون ذلك إلى حوائجهم ، وهذا بخلاف الوكيل بالبيع فإنه لا يبيع من هؤلاء ، وكذلك الوصي ; لأنه في البيع منهم في حق هؤلاء ، وفي الرهن لا يكون منهما ; لأن حكم الرهن واحد ، وهو أنه مضمون بالأقل من قيمته ، ومن الدين سواء رهنه عند هؤلاء أو عند أجنبي فلانتفاء التهمة ينفذ تصرفه معهم ولو رهن الوصي مال اليتيم ثم غصبه فاستعمله حتى هلك عنده فهو ضامن لقيمته ; لأنه بالغصب صار جانيا على حق المرتهن مفوتا ليده المستحقة فهو في ذلك كالأجنبي ضامن لقيمته يقضي منه الدين إذا كان حالا ، والفضل لليتيم ، فإن لم يكن حل فالقيمة رهن ; لأنه في الغصب ، والاستعمال لا يكون عاملا لليتيم في ماله ، بل يكون هو فيه كأجنبي آخر ، فيتقرر الضمان عليه وإن استدانه الوصي على نفسه ، ورهن متاعا لليتيم في ذلك فهو جائز ، وكذلك الولد في هذه ، وقد روي عن أبي يوسف ( رحمه الله ) لا يجوز شيء من ذلك ; لأنه صرف مال اليتيم إلى منفعة نفسه من غير حاجة ، وليس للأب ، والوصي ذلك .

( ألا ترى ) أنه ليس لهما أن يقضيا دينهما بمال الصغير ، فكذلك لا يكون لهما أن يرهنا متاع اليتيم بدينهما ، ولكنا نقول للأب ، والوصي أن يودعا مال الصغير من هذا الرجل ، والمنفعة للصغير في الرهن أظهر منه في الإيداع ; لأنه في الإيداع إذا هلك بطل حق الصغير ، وفي الرهن إذا هلك صار المرتهن مستوفيا لدينه ، وكانا ضامنين للصغير مالية الرهن ، وهذا بخلاف حقيقة الإيفاء ; لأنه إخراج ملك الدين من ملك الصغير بغير عوض يدخل في ملكه بمقابلته في الحال فلا ينفذ منهما ، فأما بالرهن فلا تخرج العين عن ملكه ، ولكن يتعين حافظ بحفظها ، وهو المرتهن فهو كالإيداع من هذا الوجه ، وإن سلطا المرتهن على بيعه فهو نظير التوكيل بالبيع ، ولهما ذلك في مال الصغير ، وفي الحقيقة هذه المسألة تنبني على البيع فإن الأب أو الوصي إذا باع مال اليتيم من غريم نفسه بمثل ما عليه من الدين عند أبي حنيفة ، ومحمد ( رحمهما الله ) تعالى يصير الثمن قصاصا بدينه ، ويصير هو ضامنا للصغير ، وعند أبي يوسف ( رحمه الله ) لا يصير الثمن قصاصا بدينه ، فإذا كان من أصله أنه لا يملك قضاء دين نفسه بمال اليتيم بطريق البيع ، فكذلك بطريق الرهن ، وعندهما لما كان يملك ذلك بطريق البيع .

فكذلك بطريق الرهن ; لأنه ليس في الرهن ضرر على الصبي إلا أن يصير قاضيا دينه عند هلاك الرهن ضامنا مثله لليتيم فهو كالبيع في هذا الحكم ، وإذا رهن الأب من نفسه متاع الصغير فهو جائز ، كما يجوز بيعه مال الصغير لنفسه قال بخلاف الوصي ; لأن الأب يملك التصرف مع نفسه ، وإن لم يكن فيه منفعة [ ص: 103 ] ظاهرة للصغير لخلاف الوصي وهنا ; لأن الأب غير متهم بإعزاز نفسه على الولد ، والوصي متهم بذلك وكذلك لو رهنه الأب من عبد تاجر له ليس عليه دين ; لأن أكثر ما فيه أنه بمنزلة الرهن من نفسه ، وكسب عبده ملك له ، وهو يملك ذلك لما ذكر في الأصل في بيان الصك الذي يكتبه الأب إذا رهن مال نفسه من الصبي : إني استقرضته من مالي كذا فأنفقته في حاجتي ، وفي هذا اللفظ دليل : على أن للأب ، ولاية الإقراض في مال ولده ; لأن معاملته مع غيره أقرب إلى النفوذ منه مع نفسه ، فإذا جاز له أن يستقرض مال ولده لنفسه ، فلأن يجوز له إقراضه من غيره أولى والحاصل أن الوصي لا يقرض على اليتيم ، ولا يستقرض ; لأنه تبرع ، وفي الأب روايتان ، وفي الرواية الظاهرة يقول : لا يملك الإقراض ; لأنه تبرع ، وليس للصغير فيه منفعة ظاهرة ، وفي هذه الرواية : إشارة إلى أن للأب ذلك ; لأنه غير متهم في حق ولده ، والظاهر أن لا يقرضه إلا ممن يملك الاسترداد منه متى شاء فهو بمنزلة القاضي في ذلك ، وللقاضي ، ولاية الإقراض في مال اليتيم لتمكنه من الاسترداد متى شاء ، فكذلك الأب له ذلك ، وإذا رهن الأب فباع ابنه الصغير عند رجل فأدرك الولد ، ومات الأب لم يكن للولد أن يسترد الرهن حتى يقضي المال ; لأنه تصرف لزم من الأب في حال قيام ولايته ، وهو في ذلك قائم مقام الولد أن لو كان بالغا فإن كان الأب رهنه لنفسه فقضاه الابن ، فإنه يرجع به في مال الأب بمنزلة المعير للرهن إذا قضى الدين ، وهذا ; لأنه لا يتوصل إلى عين ماله إلا بقضاء الدين فلم يكن متهما في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية