الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( النوع الثاني الصلح على الإنكار ) أو السكوت من المدعى عليه كما قاله في المطلب عن سليم الرازي وغيره ، ولا حجة للمدعي كأن ادعى عليه شيئا فأنكر أو سكت ثم صالح عنه ( فيبطل إن جرى على نفس المدعي ) كأن يدعي عليه دارا فيصالحه عليها بأن يجعلها للمدعي أو للمدعى عليه كما تصدق به عبارة المصنف ، وهو باطل فيهما ; إذ لا يمكن تصحيح التمليك مع ذلك لاستلزامه أن يملك المدعي مالا يملكه أو المدعى عليه ما يملكه ، وقياسا على ما لو أنكر الخلع والكتابة ثم تصالحا على شيء ، ولا ينافي ذلك خبر أبي داود { أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجلين اختصما في مواريث ولا بينة لهما : اقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل منكما صاحبه } ; لأنه قسمها بينهما بحكم كونها في يدهما ولا مرجح ، وأما التحليل مع الجهل فمن باب الورع ; لأنه أقصى ما يمكن حينئذ ، بخلاف جهل ما يمكن استكشافه ، واليمين المردودة كالإقرار ، وكذا قيام بينة بعد الإنكار فيصح الصلح بعدها كما قاله الماوردي ، واستشكال [ ص: 388 ] الغزالي ذلك قبل القضاء بالملك ; لأن له سبيلا إلى الطعن يرد بأن العدول إلى المصالحة يدل على عجزه عن إبداء طاعن ، ولو ادعى عليه عينا فقال : رددتها إليك ثم صالحه فإن كانت أمانة بيده لم يصح الصلح لقبول قوله فيكون صلحا على الإنكار ، وإلا فقوله في الرد غير مقبول فيصح الإقرار بالضمان هذا ما في فتاوى البغوي ، وله احتمالان بالبطلان مطلقا فإنه لم يقر أن عليه شيئا ، ويرد بمثل ما مر من أن العدول إلى المصالحة يدل على بقاء ضمانه ، وللمدعي المحق فيما بينه وبين الله أن يأخذ ما بذله في الصلح على إنكار ، لكن إن وقع الصلح على غير المدعى كان ظافرا ففيه ما يأتي في الظفر ، ولو أنكر فصولح ثم أقر لم يفد إقراره صحة الصلح السابق كما قاله الماوردي لانتفاء شرطه من سبق الإقرار ، فاندفع قول الإسنوي أخذا من كلام السبكي ينبغي الصحة لاتفاقهما ، على أن العقد جرى بشروطه في علمهما أو في نفس الأمر ، وعلم الفرق بين هذا وما لو باع مال أبيه ظانا حياته ، فإن الشرط وهو الملك موجود ثم في نفس الأمر ، بخلافه هنا ; إذ الإقرار إخبار لا يلزم منه وجود مخبر به في نفس الأمر ، ولو تنازعا في جريانه على إنكار أو إقرار صدق مدعي الإنكار ; لأن الأصل عدم العقد ، ولأن الظاهر والغالب جريان الصلح على الإنكار ، بخلاف البيع فالغالب صدوره على الصحة فلهذا كان القول فيه قول مدعيها ، ويغتفر جريانه على غير إقرار فيما لو اصطلح الورثة فيما وقف بينهم كما سيأتي إذا لم يبذل أحد عوضا من خالص ملكه ، وفيما لو أسلم على أكثر من أربع نسوة ومات قبل الاختيار أو طلق إحدى زوجتيه ومات قبل البيان أو التعيين ووقف الميراث بينهن فاصطلحن ، وفيما لو تداعيا وديعة عند آخر فقال لا أعلم لأيكما هي أو دارا في يدهما وأقام كل بينة [ ص: 389 ] ثم اصطلحا ، ولا ينافي ما عبر به المصنف تعبير الروضة كأصلها بقولها على غير المدعي كأن يصالحه عن الدار بثوب أو دين فقد قال الشارح : وكأن نسخة المصنف من المحرر عين فعبر عنها بالنفس ، ولم يلاحظ موافقة ما في الشرح فهما مسألتان حكمهما واحد ا هـ .

                                                                                                                            ومراده بذلك دفع اعتراض من قال : إن الصواب التعبير بالغير كما عبر به في المحرر ، ولهذا ادعى بعضهم أن الراء تصحفت على المصنف بالنون فعبر عنها بالنفس .

                                                                                                                            لا يقال : التعبير بالنفس غير مستقيم ; لأن على والباء يدخلان على المأخوذ ومن وعن على المتروك ; لأنا نقول : ذلك جرى على الغالب كما مرت الإشارة إليه ، وأيضا فالمدعى المذكور مأخوذ ومتروك باعتبارين غايته أن إلغاء الصلح في ذلك للإنكار ولفساد الصيغة باتحاد العوضين ( وكذا ) يبطل الصلح ( إن جرى على بعضه ) أي المدعى كما لو كان على غير المدعى ( في الأصح ) والثاني يصح لاتفاقهما على أن البعض مستحق للمدعي ، ولكنهما مختلفان في جهة الاستحقاق ، واختلافهما في الجهة لا يمنع الأخذ .

                                                                                                                            ورد بأنه عند اختلاف الدافع والقابض في الجهة المصدق الدافع ، وهو يقول : إنما بذلت لدفع الأذى لئلا يرفعني إلى قاض ويقيم علي شهود زور ، والبذل لهذه الجهة باطل ، ويستثنى من محل الوجهين ما لو كان المدعى به دينا وصالح منه على بعضه فإنه يبطل جزما ; لأن التصحيح إنما هو بتقدير الهبة ، وإيرادها على ما في الذمة ممتنع ( وقوله ) بعد إنكاره ( صالحني عن الدار ) مثلا ( التي تدعيها ) ( ليس إقرارا في الأصح ) لاحتمال أن يريد قطع الخصومة فقط ، والثاني نعم لتضمنه الاعتراف كما لو قال : ملكني ودفع بما مر ، وعلى الأول يكون الصلح بعد هذا التماس صلح إنكار ، أما لو قال ذلك ابتداء قبل إنكاره كان باطلا جزما ، ولو قال : بعني أو هبني أو ملكني المدعى به أو زوجنيها أو أبرئني منه فإقرار لا أجرني أو أعرني على الأصح كما جزم به في الأنوار ; إذ الإنسان قد يستعير ملكه ويستأجره من مستأجره ومن الموصى له بمنفعته .

                                                                                                                            نعم يظهر كما بحثه الشيخ أنه إقرار بأنه [ ص: 390 ] مالك للمنفعة .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : فيبطل ) أي للخبر السابق { إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا } فإن المدعي إن كذب فقد استحل مال المدعى عليه الذي هو حرام ، وإن صدق فقد حرم على نفسه ماله الذي هو حلال : أي بصورة العقد ، فلا يقال للإنسان ترك بعض حقه ا هـ حج .

                                                                                                                            وكتب عليه سم ما نصه : قوله فقد حرم إلخ قد يناقشون بأنه لا محذور في ذلك ; لأن حرمته على نفسه بمعاملة صحيحة صدرت باختياره كسائر المعاملات الصحيحة المختارة ، فإن كلا من المتعاملين حرم على نفسه ما بذله في تلك المعاملة ، والمعاملة هنا صحيحة .

                                                                                                                            ومن ذلك الصالح على الإقرار ، فإن المدعي حرم على نفسه ما بذله في تلك المعاملة ، والمعاملة هنا صحيحة عند المخالفين فهي كغيرها من المعاملات الصحيحة ، ومن ذلك الصلح على الإقرار فإن المدعي حرم على نفسه ماله بما أخذه عوضا عنه إلخ ا هـ .

                                                                                                                            ويمكن الجواب عنه كما يؤخذ من كلام ع بأن غيره من المعاملات كل من المتعاقدين يتصرف في ملك نفسه ، بخلاف ما هنا فإن المدعي يبيع ما لا يملكه أي حيث كان غير محقق في إنكاره والمشتري يشتري ما يملكه : أي حيث كان صادقا في دعواه

                                                                                                                            ( قوله : مع ذلك ) أي الإنكار

                                                                                                                            ( قوله : وقياسا إلخ ) لعل هذا متفق عليه بين الأئمة ، وإلا فهو من أفراد الصلح على الإنكار فلا يصح القياس

                                                                                                                            ( قوله : فيصح الصلح بعدها ) أي بعد تعديلها وإن لم يحكم بالملك : قال سم على حج : [ ص: 388 ] وخرج ببعدها ما لو أقيمت بعده فلا ينقلب صحيحا كما لو أقر بعده كما سيأتي ، وهذا بخلاف ما لو أقيمت بعد الصلح بينة بأنه كان مقرا قبل الصلح فإن الصلح صحيح ، فعلم الفرق في البينة بعد الصلح بين الشاهدة بنفس الحق فلا يكون الصلح صحيحا ، والشاهدة بالإقرار قبله فيكون صحيحا م ر .

                                                                                                                            وفي شرح العباب : ولو أقيمت بينة بعد الصلح على الإنكار بأنه ملكه وقته فهل تلحق بالإقرار ؟ قال الجوري : تلحق به بالأولى ; لأنه يمكن الطعن فيها لا فيه ا هـ .

                                                                                                                            أقول : قد تمنع الأولوية بأن شرط الصلح الإقرار ، وهو منتف ومن ثم لو كان المدعي محقا في نفس الأمر لا يملك الصلح عليه اعتبارا بذلك بل يتصرف فيه من باب الظفر كما ذكره شيخنا الزيادي في حاشيته وسيأتي في كلام الشارح ، فلعل مراد الجوري من إلحاقه بالإقرار أنه يأتي فيه إشكال الغزالي من أنه متمكن من الطعن في البينة قبل الحكم ; لأنه يتبين بذلك صحة الصلح

                                                                                                                            ( قوله : ذلك ) أي الصلح فيما لو أقيمت البينة

                                                                                                                            ( قوله : فإن كانت أمانة ) أي بغير رهن وإجارة على ما يفيده التعليل

                                                                                                                            ( قوله : وله احتمالان ) كان الأظهر أن يقول وله احتمال ، ثم رأيته كذلك في نسخة صحيحة

                                                                                                                            ( قوله : فصولح ) أي أوقع الصلح بينه وبين خصمه على شيء

                                                                                                                            ( قوله : فيما وقف بينهم ) قضيته أنه لو كان إرث كل واحد منهم ناجزا إلا أنهم لم يعلموا مقدار ما لكل إما لعدم القسمة أو لعدم معرفة ما لكل شرعا لم يصح الصلح ; لأنهم لم ينصوا على استثنائه فبقي على أصله

                                                                                                                            ( قوله : أو دارا في يدهما ) أي تداعيا دارا في إلخ ( قوله : وأقام كل بينة ) قضية ذلك أنهما لو تصالحا بلا بينة لم يصح ، وعليه فأي فرق بين ذلك وبين إقامة البينتين فإنهما يتساقطان ويبقى مجرد اليد ، وقد تقدم في الجواب عن { أنه صلى الله عليه وسلم قسم بين اثنين تخاصما في ميراث } [ ص: 389 ] بأنه إنما فعل ذلك لكونها في يدهما فيقال بمثله هنا

                                                                                                                            ( قوله : ثم اصطلحا ) أي من هي في يدهما

                                                                                                                            ( قوله : كما مرت الإشارة إليه ) أي في أول الترجمة بقوله : غالبا وعلى هذا فالمراد بالإشارة الذكر

                                                                                                                            ( قوله : وإيرادها ) أي الهبة

                                                                                                                            ( قوله : ممتنع ) وقد يدفع بأنه لو قيل بالصحة لكان إبراء وهو مما في الذمة صحيح

                                                                                                                            ( قوله : كان باطلا جزما ) الجزم هنا قد يخالف قول المصنف السابق ، ولو قال من غير سبق خصومة : صالحني عن دارك بكذا فالأصح بطلانه ، ويمكن الجواب بأن ما تقدم مفروض في صحة الصلح وفساده ، وما هنا في صحة الإقرار وبطلانه كما يصرح به قول حج هنا ، أما قوله ذلك ابتداء قبل إنكاره فليس إقرارا قطعا

                                                                                                                            ( قوله : فإقرار ) هذا إذا كان المدعى به عينا كما هو الفرض فلو كان دينا فهو باطل مطلقا ا هـ حج بالمعنى .

                                                                                                                            وعبارته : وكذا قوله لمدعى عليه ألف : صالحني منها على خمسمائة وهبني خمسمائة أو أبرئني من خمسمائة لاحتمال أن يرتب به قطع الخصومة لا غير ا هـ .

                                                                                                                            وهو مستفاد من قول الشارح فيما سبق ويستثنى من محل الوجهين

                                                                                                                            ( قوله : لا أجرني ) أي فلا يكون إقرارا بالعين .



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            . [ ص: 387 ] قوله : لاستلزامه أن يملك المدعي ما لا يملكه أو المدعى عليه ما يملكه ) أي : إن كان المدعي كاذبا فيهما : فإن كان صادقا انعكس الحال ، فلو قال ; لاستلزامه أن يملك الشخص ما يملكه أو ما لا يملكه لشملهما ، على أن في هذا التعليل نظرا لا يخفى ، إذ لا محذور في كون الشخص يملك ما لا يملكه بواسطة الصلح كغيره فليحرر [ ص: 388 ] قوله : فإن كانت أمانة بيده ) أي وكان المدعي هو الذي ائتمنه عليها ; لأن هذه هي التي يقبل قوله : في ردها إليه . ( قوله : ووقف الميراث بينهن ) الأولى بينهما [ ص: 389 ] قوله : لا يقال إلخ ) لا يخفى ما في هذا السؤال من حيث سياقه من القلاقة . ( قوله : جرى على الغالب ) أي فالمعنى : أي من أو عن نفس المدعي : أي على غيره : أي وحذفه لوضوحه ولعلمه من المعطوف وعبارة التحفة مع المتن : إن جرى على هي هنا بمعنى عن أو من لما مر أن كون على والباء للمأخوذ وعن ومن للمتروك أغلبي نفس المدعى على غيره كأن ادعى عليه بدار أو دين فأنكر ثم تصالحا على نحو قن ، ويصح كونها على بابها والتقدير : إن جرى على نفس المدعي عن غيره ودل عليه ذكر المأخوذ ; لأنه يقتضي متروكا ، ويصح مع عدم هذا التقدير أيضا ، وغايته أن البطلان فيه لأمرين : كونه على إنكار ، وعدم العوضية فيه انتهت . ( قوله : وأيضا فالمدعي المذكور إلخ ) هذا هو الذي سلكه هو في حل المتن . ( قوله : مأخوذ ومتروك باعتبارين ) أي : فعلى على بابها للاعتبار الثاني




                                                                                                                            الخدمات العلمية