الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  369 42 - حدثنا محمد بن عرعرة قال : حدثني عمر بن أبي زائدة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم ، ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأيت الناس يبتدرون ذاك الوضوء ، فمن أصاب منه شيئا تمسح به ، ومن لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد صاحبه ، ثم رأيت بلالا أخذ عنزة فركزها ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمرا صلى إلى العنزة بالناس ركعتين ، ورأيت الناس ، والدواب يمرون من بين يدي العنزة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم أربعة : الأول : محمد بن عرعرة بالمهملتين المفتوحتين وسكون الراء الأولى مر في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله . الثاني : عمر بن أبي زائدة أخو زكريا الهمداني الكوفي ، وعمر بدون الواو . الثالث : عون بالنون في آخره ابن أبي جحيفة . الرابع : أبوه أبو جحيفة بضم الجيم ، وفتح الحاء المهملة ، وسكون الياء آخر الحروف ، وفتح الفاء ، وفي آخره هاء ، واسمه وهب بن عبد الله السوائي بضم السين المهملة ، وتخفيف الواو ، وبالهمزة بعد الألف الكوفي مر في كتاب العلم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع ، وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه القول ، وفيه أن رواته ما بين كوفي وبصري .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن محمد بن عرعرة عن عون به ، وفي اللباس أيضا عن إسحاق عن النضر بن شميل عنه ببعضه ، وأخرجه أيضا في باب : سترة الإمام سترة من خلفه ، وبعده بقليل في باب : الصلاة إلى العنزة ، وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن حاتم عن بهز عنه ، وأخرجه أيضا عن محمد بن مثنى ، ومحمد بن بشار ، وعن زهير بن حرب ، وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن سليمان الأنباري عن وكيع ، وأخرجه الترمذي فيه عن محمود بن غيلان ، عن عبد الرزاق ، وأخرجه النسائي في الزينة عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام ، عن إسحاق الأزرق ، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن أيوب بن محمد الهاشمي عن عبد الواحد بن زياد .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 100 ] ( ذكر معانيه ) : قوله : "في قبة حمراء من أدم" قال الجوهري : القبة من البناء ، والجمع قبب وقباب . ( قلت ) المراد من القبة هنا هي التي تعمل من الجلد ، وقد فسر ذلك بكلمة من البيانية ، والأدم بفتح الهمزة والدال جمع الأديم ، وفي المحكم : الأديم الجلد ما كان ، وقيل : الأحمر ، وقيل : هو المدبوغ ، وقيل : هو بعد الأفيق ، وذلك إذا تم واحمر ، والأفيق هو الجلد الذي لم يتم دباغه ، وقيل : هو ما دبغ بغير القرظ قاله ابن الأثير ، والأدم اسم الجمع عند سيبويه ، والأدام جمع أديم كيتيم وأيتام ، وإن كان هذا في الصفة أكثر ، وقد يجوز أن يكون جمع أدم ، وفي المخصص عن أبي حنيفة : إذا رشف الجلد وبسط حتى يبالغ فيه ما قبل من الدباغ فهو حينئذ أديم وأدم وأدمة ، وفي نوادر اللحياني من خط الحافظ : الأدم والأدم جمع الأديم وهو الجلد ، وفي الجامع : الأديم باطن الجلد ، ورؤية أبي جحيفة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بالأبطح بمكة صرح بذلك في رواية مسلم : "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، وهو بالأبطح" ، وهو الموضع المعروف ، ويقال له البطحاء ، ويقال : إنه إلى منى أقرب ، وهو المحصب ، وهو خيف بني كنانة ، وزعم بعضهم أنه ذو طوى ، وليس كذلك كما نبه عليه ابن قرقول ، وعند النسائي ، وهو في قبة حمراء في نحو من أربعين رجلا . قوله : "وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم" بفتح الواو هو الماء الذي يتوضأ به ، وقوله : "يبتدرون" أي : يتسارعون ويتسابقون إليه تبركا بآثاره الشريفة ، وفي رواية مسلم ، "وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم . قال : فأخذت بيده فوضعتها على وجهي ، فإذا هي أبرد من الثلج ، وأطيب رائحة من المسك" ، وفي رواية : "فأخرج فضل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدره الناس فنلت منه شيئا" . قوله : "ذلك" ، ويروى : "ذاك الوضوء" . قوله : "من بلل يد صاحبه" ، ويروى "من بلال يد صاحبه" . قوله : "عنزة" بفتح العين المهملة والنون والزاي ، وهي مثل نصف الرمح أو أكبر شيئا ، وفيها سنان مثل سنان الرمح ، والعكازة قريب منها . قوله : "في حلة حمراء" في موضع النصب على الحال ، والحلة ثوبان إزار ورداء ، وقيل : أن يكون ثوبين من جنس واحد سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل على الآخر ، وقيل : أصل تسميتها بهذا إذا كان الثوبان جديدين فما حل طيهما فقيل لهما حلة لهذا ، ثم استمر عليهما الاسم ، وقال ابن الأثير : الحلة واحدة الحلل ، وهي برود اليمن ، ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد ، وقال غيره : والجمع حلل وحلال ، وحلله الحلة ألبسه إياها ، وفي رواية أبي داود : وعليه حلة حمراء برود يمانية قطري . قوله : "برود" جمع برد مرفوع ؛ لأنه صفة للحلة ، وقوله : "يمانية" صفة للبرود أي : منسوبة إلى اليمن . قوله : "قطري" بكسر القاف ، وسكون الطاء ، والأصل قطري بفتح القاف والطاء ؛ لأنه نسبة إلى قطر بلد بين عمان وسيف البحر ، ففي النسبة خففوها وكسروا القاف وسكنوا الطاء ، ويقال : القطري ضرب من البرود فيها حمرة ، ويقال : ثياب حمر لها أعلام فيها بعض الخشونة ، وقيل : حلل جياد تحمل من قبل البحرين ، وإنما لم يقل قطرية مع أن التطابق بين الصفة والموصوف شرط ؛ لأنه بكثرة الاستعمال صار كالاسم لذلك النوع من الحلل ، ووصف الحلة بثلاث صفات الأولى صفة الذات ، وهي قوله : "حمراء" ، والثانية : صفة الجنس ، وهي قوله : "برود" بين به أن جنس هذه الحلة الحمراء من البرود اليمانية ، والثالثة : صفة النوع ، وهي قوله : "قطري" ؛ لأن البرود اليمانية أنواع : نوع منها قطري بينه بقوله : قطري ، وقيل : إنما لبس النبي صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء في السفر ليتأهب للعدو ، ويجوز أن يلبس في الغزو ما لا يلبس في غيره . ( قلت ) فيه نظر ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في هذا السفر للغزو ؛ لأنه كان عقيب حجة الوداع ، ولم يبق له غزو إذ ذاك ، وكأن هذا القائل نقل عن بعض الحنفية أنه ذهب إلى عدم جواز لبس الثوب الأحمر ، ثم لما أوردوا عليه ما روي في هذا الحديث أجاب بما ذكرنا . ( قلت ) لا النقل عنه صحيح ، ولا هو مذهب الحنفية ، فلا يحتاج إلى الجواب المذكور . قوله : "مشمرا" بكسر الميم الثانية نصب على الحال من النبي صلى الله عليه وسلم يقال : شمر إزاره تشميرا أي : رفعه ، وشمر عن ساقه ، وشمر في أمره أي : خف ، والمعنى رفعها إلى أنصاف ساقيه كما جاء في رواية مسلم "كأني أنظر إلى بياض ساقيه" . قوله : "صلى بالناس" صلاته هذه هي صلاة الظهر ، وفي رواية مسلم : "فتقدم فصلى الظهر ركعتين ، ثم صلى العصر ركعتين ، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة" . قوله : "يمرون بين يدي العنزة" ، وفي رواية : "تمر من ورائها المرأة" ، وفي لفظ : "يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع" .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر استنباط الأحكام منه ) : فيه جواز لبس الثوب الأحمر والصلاة فيه ، والباب معقود عليه ، وقد مر الكلام فيه عن قريب ، وفيه جواز ضرب الخيام والقباب ، وفيه التبرك بآثار الصالحين ، وفيه نصب علامة بين يدي المصلي في الصحراء ، وفيه جواز [ ص: 101 ] قصر الصلاة في السفر ، وهو الأفضل عند أصحابنا ، والذي في مسلم يدل عليه ، وفيه جواز المرور وراء سترة المصلي ، وقال ابن بطال فيه إنه يجوز لباس الثياب الملونة للسيد الكبير والزاهد في الدنيا والحمرة أشهر الملونات وأجل الزينة في الدنيا ، وفيه طهارة الماء المستعمل ، قيل : فيه حجة على الحنفية في قولهم بنجاسة الماء المستعمل . ( قلت ) ليس كذلك ؛ فإن المذهب أن الماء المستعمل طاهر حتى يجوز شربه والتعجين به ، غير أنه ليس بطهور ، فلا يجوز به الوضوء ولا الاغتسال ، وكونه نجسا رواية عن أبي حنيفة ، وليس العمل عليها على أن حكم النجاسة في هذه الرواية باعتبار إزالة الآثام النجسة عن البدن المذنب فيتنجس حكما بخلاف فضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاهر من بدن طاهر ، وهو طهور أيضا أطهر من كل طاهر وأطيب . .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية