الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  [ ص: 160 ] ( وقال إبراهيم - يعني ابن طهمان - عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس رضي الله عنه قال : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمال من البحرين فقال : انثروه في المسجد . وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة ولم يلتفت إليه ، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه ، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله ، أعطني ؛ فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ . فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع ، فقال : يا رسول الله ، مر بعضهم يرفعه إلي . قال : لا . قال : فارفعه أنت علي . قال : لا . فنثر منه ثم ذهب يقله ، فقال : يا رسول الله ، اؤمر بعضهم يرفعه علي . قال : لا . قال : فارفعه أنت علي . قال : لا . فنثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله ، ثم انطلق ، فما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبا من حرصه ، فما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثمة منها درهم ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا تعليق من البخاري ، قال الإسماعيلي : ذكره البخاري عن إبراهيم - وهو ابن طهمان فيما أحسب - بغير إسناد ؛ يعني تعليقا ، وفي بعض الرواية : قال إبراهيم ؛ بغير ذكر أبيه ، والأول هو الأصح ، وطهمان بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء ابن شعبة الخراساني أبو سعيد مات سنة ثلاث وستين ومائة بمكة ، وأخرجه البخاري أيضا معلقا في الجهاد وفي الجزية ، وقال الحافظ المزي : هكذا هو في البخاري إبراهيم غير منسوب ، وذكره أبو مسعود الدمشقي وخلف الواسطي في ترجمة عبد العزيز بن صهيب عن أنس ، وكذلك رواه عمر بن محمد بن بجير - بضم الباء الموحدة وفتح الجيم ، ونسبة عمر إلى جده البجيري - في صحيحه من رواية إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس ، وقيل : إنه عبد العزيز بن رفيع ، وقد روى أبو عوانة في صحيحه : حديثا من رواية إبراهيم بن طهمان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أنس : تسحروا فإن في السحور بركة . وروى أبو داود والنسائي حديثا من رواية إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله تعالى عنها حديث : لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث . . . الحديث ، فيحتمل أن يكون هذا ويحتمل أن يكون هذا ، والله أعلم أيهما هو . وقال بعضهم : قال المزي في الأطراف : قيل : إنه عبد العزيز بن رفيع وليس بشيء . قلت : قوله : " ليس بشيء " راجع إلى قول صاحب هذا القيل ؛ لأن المزي قال بالاحتمال كما ذكرنا ، ثم إن هذا المعلق وصله أبو نعيم الحافظ : حدثنا محمد بن إبراهيم بن علي ، حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد ، حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد ، حدثني أبي ، حدثني إبراهيم بن طهمان ، عن عبد العزيز - يعني ابن صهيب - عن أنس قال : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمال من البحرين . . . الحديث ، ( فإن قلت ) : الترجمة مشتملة على شيئين ؛ أحدهما القسمة في المسجد ، والآخر تعليق القنو فيه ، وليس في حديث الباب إلا ما يطابق الجزء الأول - قلت : ذكر أبو محمد بن قتيبة في غريب الحديث تأليفه في هذا أنه لما خرج رأى أقناء معلقة في المسجد وكان أمر بين كل حائط بقنو يعلق في المسجد ليأكل منه من لا شيء له . وقال ثابت في كتاب الدلائل : وكان عليها على عهده - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه ، انتهى . ومن عادة البخاري الإحالة على أصل الحديث وما أشبهه ، والمناسبة بينهما أن كل واحد منهما وضع في المسجد للأخذ منه لا للادخار ، وعدم التفات النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إليه استقلالا للدنيا وما فيها ، فسقط بما ذكرنا قول ابن بطال في عدم ذكر البخاري حديثا في تعليق القنو أنه أغفله ، وكذلك سقط كلام ابن التين أنساه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم ) بضم الهمزة على صيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بمال من البحرين ) ، وقد تعين المال فيما رواه ابن أبي شيبة من طريق حميد مرسلا أنه كان مائة ألف وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين ، قال : [ ص: 161 ] وهو أول خراج حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد روى البخاري في المغازي من حديث عمر بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي ، وبعث أبا عبيدة بن الجراح إليهم ، فقدم أبو عبيدة بمال فسمعت الأنصار بقدومه . . . الحديث ، ( فإن قلت ) : ذكر الواقدي في الردة أن رسول العلاء بن الحضرمي بالمال هو العلاء بن حارثة الثقفي - قلت : يحتمل أنه كان رفيق أبي عبيدة فاختصر في رواية الواقدي عليه ، ( فإن قلت ) : في صحيح البخاري من حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : لو جاء مال البحرين أعطيتك ، وفيه : فلم يقدم مال البحرين حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا معارض لحديث الباب - قلت : لا معارضة ؛ لأن المراد أنه لم يقدم في السنة التي مات فيها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان مال خراج أو جزية فكان يقدم من سنة إلى سنة . وأما البحرين فهو تثنية بحر في الأصل ، وهي بلدة مشهورة بين البصرة وعمان وهي هجر ، وأهلها عبد القيس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، وقال القاضي عياض : قيل بينها وبين البصرة أربعة وثمانون فرسخا . وقال أبو عبيد البكري : لما صالح أهله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر عليهم العلاء بن الحضرمي . وزعم أبو الفرج في تاريخه أنها ريبة وأن ساكنيها معظمهم مطحولون ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                  ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ويغبط بما في جوفه وهو ساغب

                                                                                                                                                                                  وزعم ابن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف من الجعرانة - يعني بعد قسمة غنائم حنين - أرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي وهو بالبحرين يدعوه إلى الإسلام ، فكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه وتصديقه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( انثروه ) ؛ أي : صبوه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( إليه ) أي : إلى المال الذي قدم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( إذ جاءه العباس ) وهو عم النبي عليه الصلاة والسلام ، ابن عبد المطلب ، وكلمة " إذ " ظرف في الغالب ، والعامل فيه يجوز أن يكون قوله " فجلس إليه " ، ويجوز أن يكون قوله " يرى " .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فاديت نفسي ) ؛ يعني يوم بدر حيث أخذ أسيرا ، وفاديت من المفاداة ، يقال : فاداه يفاديه إذا أعطى فداءه وأنقذ نفسه ، ويقال : فدى وأفدى وفادى ؛ ففدى إذا أعطى المال لخلاص غيره ، وفادى إذا افتك الأسير بأسير مثله لخلاص نفسه ، وأفدى إذا أعطى المال .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وفاديت عقيلا ) بفتح العين ، وهو ابن أبي طالب ، وكان هو أيضا أسر يوم بدر مع عمه العباس .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فحثى ) بفتح الحاء المهملة والثاء المثلثة ، والضمير فيه يرجع إلى العباس ، يقال : حثوت له إذا أعطيته شيئا يسيرا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( في ثوبه ) أي : في ثوب العباس .

                                                                                                                                                                                  قوله ( يقله ) بضم الياء من الإقلال ، وهو الرفع والحمل .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فلم يستطع ) ؛ أي : حمله .

                                                                                                                                                                                  قوله ( مر بعضهم يرفعه علي ) ؛ أي : مر بعض الحاضرين يرفع المال الذي أخذته ، وإنما قال ذلك لأنه لم يستطع حمله ، ( فإن قلت ) : ما وزن " مر " ؟ قلت : عل ؛ لأن المحذوف منه فاء الفعل ، لأن أصله اؤمر ، لأنه من أمر يأمر مهموز الفاء فحذفت همزة الكلمة لاجتماع المثلين في أول الكلمة المؤدي إلى الاستثقال فبقي أمر ، فاستغني عن همزة الوصل لتحرك ما بعدها فحذفت ، فصار مر على وزن عل ، وفي رواية : " اؤمر " على الأصل .

                                                                                                                                                                                  قوله ( يرفعه ) بياء المضارع ، والضمير المستتر فيه يرجع إلى البعض ، والبارز إلى المال الذي حثاه العباس في ثوبه ، ويجوز فيه الرفع والجزم ؛ أما الرفع فعلى الاستئناف والتقدير : هو يرفعه ، وأما الجزم فعلى أنه جواب الأمر ، ويروى " برفعه " بالباء الموحدة .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : كيف ما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بإعانته في الرفع ولا أعانه بنفسه ؟ قلت : زجرا له عنالاستكثار من المال وأن لا يأخذ إلا قدر حاجته ، أو لينبهه على أن أحدا لا يحمل عن أحد شيئا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فألقاه ) ؛ أي : العباس ( على كاهله ) ، والكاهل ما بين الكتفين .

                                                                                                                                                                                  قوله ( يتبعه بصره ) بضم الياء من الإتباع ؛ أي : لم يزل - صلى الله عليه وسلم - يتبع العباس بصره حتى خفي عليه وذلك تعجبا من حرصه ، وهو معنى قوله : " عجبا من حرصه " ، وانتصابه على أنه مفعول مطلق من قبيل ما يجب حذف عامله ، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول له .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وثمة ) بفتح الثاء المثلثة ؛ أي : هنالك .

                                                                                                                                                                                  وقوله ( درهم ) مبتدأ ، وخبره قوله " منها " مقدما ، والجملة وقعت حالا ، والمقصود منه إثبات القيام عند انتفاء الدرهم إذ الحال قيد للمنفي لا للنفي ، والمجموع منتف بانتفاء القيد لانتفاء المقيد وإن كان ظاهره نفي القيام حال ثبوت الدرهم .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستنبط منه من الأحكام : منها أن القسمة إلى الإمام على قدر اجتهاده ، ومنها ما قاله ابن بطال أن العطاء لأحد الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في كتابه دون غيرهم لأنه أعطى العباس لما شكى إليه من الغرم ولم يسوه في القسمة مع الثمانية الأصناف ، فلو قسم ذلك على التساوي لما أعطى العباس بغير مكيال ولا ميزان . وقال الكرماني : لا يصح هذا الكلام لأن الثمانية هي [ ص: 162 ] مصارف الزكاة ، والزكاة حرام على العباس ، بل كان هذا المال إما فيئا أو غنيمة . قلت : لم يكن هذا المال فيئا ، وإنما كان خراجا ، ولو وقف الكرماني على ما ذكرناه عن ابن أبي شيبة فيما مضى عن قريب لما قال هذا الذي قاله ، وكذلك ابن بطال وهم فيما قاله حيث جعل المال من الزكاة ، وتبعه صاحب التلويح حيث قال : وفيه دلالة لأبي حنيفة ومن قال بقوله أنه يجوز الاقتصار على بعض الأصناف المذكورين في الآية الكريمة ؛ لأنه أعطى العباس لما شكى الغرم بغير وزن ولم يسوه في القسم مع الأصناف الثمانية ، ولم ينقل أنه أعطى أحدا مثله . قلت : هذا أيضا كلام صادر من غير تأمل ؛ لأنه ليس للأصناف الثمانية دخل في هذا ولا المال كان من مال الزكاة .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن السلطان إذا علم حاجة لأحد إلى المال لا يحل له أن يدخر منه شيئا ، ومنها أن فيه كرم النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وزهده في الدنيا وأنه لم يمنع شيئا سئله إذا كان عنده ، ومنها أن للسلطان أن يرتفع عما يدعى إليه من المهنة والعمل بيده وله أن يمتنع من تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسلطان في ذلك حاجة ، ومنها أن فيه وضع ما الناس مشتركون فيه من صدقة وغيرها في المسجد لأن المسجد لا يحجب من أحد من ذوي الحاجة من دخوله والناس فيه سواء ، وقال ابن القاسم : وسئل مالك عن الإفتاء في المسجد وما يشبه ذلك فقال : لا بأس بها . وسئل عن الماء الذي يسقى في المسجد : أترى أنه يشرب منه ؟ قال : نعم ، إنما جعل للعطش ولم يرد به أهل المسكنة ، فلا أرى أنه يترك شربه ، ولم يزل هذا من أمر الناس . .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية