الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      التاسعة : إذا وقع الفعل في سياق النفي أو الشرط فهو على قسمين :

                                                      أحدهما : أن يكون قاصرا ، فهل يتضمن ذلك المصدر فيكون نفيه بمصدره ، وهو نكرة في سياق النفي فيقتضي العموم ، أم لا ؟ حكى القرافي عن الشافعية والمالكية أنه يعم ، وأن القاضي عبد الوهاب في الإفادة " نص على ذلك ، وظاهر كلام إمام الحرمين والغزالي والآمدي والهندي ، حيث قيدوا الخلاف الآتي بالفعل المتعدي إذا نفي هل يعم مفاعيله ؟ يقتضي أن اللازم لا يعم نفيه ولا يكون نفيا للمصدر .

                                                      وقال الأصفهاني : لا فرق بينهما ، والخلاف فيهما على السواء ، لكن الغزالي حيث صور المسألة بما سبق ، مثل بما إذا قال : والله لا أضرب ، أو إن ضربت فأنت طالق ، ونوى الضرب بآلة بعينها ، أو إن خرجت فأنت طالق ، ونوى مكانا بعينه ، وهو يخل بترجمة المسألة كما قاله الهندي ، لأن الضرب والخروج غير متعد إلى الآلة والمكان . اللهم إلا أن يريد بقوله [ ص: 167 ] المتعدي إلى مفعول أعم من أن يكون متعديا بنفسه أو بالحرف ، سواء كان معه الحرف أو لم يكن ، وحينئذ فيشمل الخلاف الأفعال كلها ، ثم إنه أطلق الفعل ولا بد من تقييده بالواقع في حيز النفي أو الشرط لا الإثبات فتفطن له ، وذكر الهندي أن ذلك في قوة نفي المصدر ، وقضيته أنه ليس مثله ; بل أنزل منه درجة .

                                                      والصواب أنه يعم كما في نفي المصدر ، مثله قوله تعالى : { لا يموت فيها ولا يحيى } { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } الآية ، ولا ريب أن النفي في هذا وأمثاله للعموم ، وأن المفهوم منه أنه نفي كما لو قال : لا حياة ولا موت ، ولهذا لو حلف لا يبيع ولا يطلق حنث بأي بيع كان ، وأي طلاق كان ، لأنه لم يفهم منه إلا نفي أفراد هذا الجنس من البيع أو الطلاق ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، فوجب أن يكون نفي الفعل حقيقة في عموم نفي جميع المصادر وهو المطلوب .

                                                      والثاني : أن يكون متعديا ووقع في سياق النفي أو الشرط ، ولم يصرح بمفعوله ، ولم يكن له دلالة على مفعول ، لا واحد ، ولا أكثر ، فهل يكون عاما فيها أم لا ؟ كما إذا قال : والله لا أكلت ، أو لا آكل ، أو إن أكلت فعلي كذا ، فذهب الشافعية ، والمالكية وأبو يوسف وغيرهم إلى أنه عام فيه .

                                                      وقال أبو حنيفة : لا يعم واختاره القرطبي من المالكية ، [ ص: 168 ] والإمام الرازي منا ، وجعله القرطبي من باب الأفعال اللازمة ، نحو يعطي ويمنع فلا يدل على مفعول لا بالعموم ولا بالخصوص ; لأن هذه الأفعال لما لم تقصد مفعولاتها تبين أنه قصد بها ماهيات تلك الأفعال المجردة عن الوحدة والكثرة ; بل وعن القيود المكانية والإضافية .

                                                      وحجة الأولين أن أصل وضع هذه الأفعال لتدل على ماهيات مقيدة بالمحال التي هي المفعولات كما وضعت لتدل على الفاعل ومع ذلك فقد يحذف الفاعل في بعض المواضع ، ويصير كأنه لم يوضع له الفعل ، كما فعلوا في باب إعمال المصدر ، كقوله تعالى { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما } وتظهر فائدة الخلاف في التخصيص بالنية ، فعند أصحابنا لو نوى به مأكولا معينا قبل ، ولا يحنث بأكل غيره بناء على عموم لفظه ، وقبول العام للتخصيص ببعض مدلولاته كسائر العمومات ، فصح أن ينوي في هذه الأفعال ما كان أصلا لها مع كونه محذوفا لفظا ; لأنها صالحة له وضعا ، ولا يقبل عند الحنفية ; لأن التخصيص فرع ثبوت العموم ولا عموم .

                                                      وقد قال الرافعي في كتاب " الأيمان " لو حلف لا يساكن في الدنيا ، ونوى البلد فهل يحمل عليه أو لا ، إذ ليس بمساكنة ، فلا تعمل النية المجردة ؟ وجهان .

                                                      وذكر القرطبي أن القائلين بتعميمه قالوا : إنه لا يدل على جميع ما يمكن أن يكون مفعولا له على جهة الجمع ، بل على جهة البدل . قال : وهؤلاء أخذوا الماهية مقيدة ، ولا ينبغي لأبي حنيفة أن ينازعه . قال : وإذا التفت إلى هذا ارتفع الخلاف .

                                                      وقال الإمام فخر الدين : نظر أبي حنيفة في هذه المسألة دقيق ، لأن [ ص: 169 ] النية لو صحت لصحت إما في الملفوظ أو غيره ، والأول باطل ، لأن الملفوظ هو الأكل وهو ماهية واحدة لا تقبل التعدد فلا تقبل التخصيص ، فإن أخذت مع قيود زائدة عليها تعددت ، وحينئذ تصير محتملة للتخصيص ، لكن تلك الزوائد غير ملفوظ بها فالمجموع الحاصل من الماهية غير ملفوظ ، فيكون القابل لنية التخصيص شيئا غير ملفوظ ، وهذا هو القسم الثاني ، وهو إن جاز عقلا لكنه باطل شرعا ، لأن إضافة ماهية الأكل إلى الخبز تارة وإلى غيره أخرى إضافات تعرض لها بحسب اختلاف المفعول فيه . وإضافتها إلى هذا اليوم وذاك وهذا الموضع وذاك إضافات عارضة لها بحسب اختلاف المفعول فيه ، ثم أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالزمان والمكان لم يصح ، فكذا التخصيص بالمفعول به ، والجامع رعاية الاحتياط في تعظيم التمييز . هذا كلامه .

                                                      والنظر الدقيق إنما هو لأصحابنا ، وما ذكره الإمام مدخول ، وقوله : الأكل ماهية واحدة لا تقبل التعدد مسلم ، ولكن مع قرينة دخول حرف النفي لا نسلم أنه لا دلالة له على التعدد ، سلمنا أن الملفوظ لا يقبل التخصيص فغير الملفوظ يقبله .

                                                      وأجيب عما ذكره من القياس بوجهين :

                                                      أحدهما : بالمنع ، فإنه يجوز تخصيص النية بالمكان والزمان ، كما يجوز بالمأكول المعين بلا خلاف ، وقد نص الشافعي على أنه إذا قال : إن كلمت زيدا فأنت طالق ، ثم قال : أردت شهرا ، أنه يصح ويقبل منه ، بلا فرق . [ ص: 170 ]

                                                      وثانيها : أن قياس المفعول به على المفعول فيه ظاهر التعسف ، لأن المفعول به من مقومات الفعل في الوجود ، لأن أكلا بلا مأكول محال ، وكذا في الذهن فهم ماهية الأكل دون المأكول مستحيل ، فإلزام الأكل للمأكول واضح .

                                                      وأما الزمان والمكان فليسا من لوازم ماهية الفعل ، ولا من مقوماته ، بل هما من لوازم الفاعل ، ولا شك أن دلالة الفعل على المفعول به أقوى من دلالته على المفعول فيه .

                                                      وقال محمد بن يحيى في تعليقه : الخلاف المفهوم من اللفظ منحصر في ثلاثة أقسام : ما وضع له اللفظ كاسم البيت للبيت ، وما دل عليه اللفظ ، وما تضمنه كدلالة اسم البيت على السقف والحائط ، وما لزمه لضرورة الوجود ، ككونه ذا ظل واقع عند طلوع الشمس .

                                                      فمثال الأول : دلالة لفظ الأيمان على معناه . ومثال الثاني : دلالة الطلاق على المطلق والمطلقة . ومثال الثالث : دلالته على زمان الطلاق ومكان المطلق .

                                                      أما الموضوع فيحتمل النية بالإجماع كلفظ العين والقرء إذا نوى به مسمياته ، وأما اللازم فلا يحتملها كما إذا نوى زمان الطلاق ومكانه ، وأما المدلول فمحل الخلاف ، ولهذا اختلف الأصوليون في أن من قال : والله لا آكل ونوى بعض المأكولات ، هل يخص به يمينه ، فإن المأكولات التي يتعلق بها الأكل كثيرة وغير ملفوظة وضعا ؟ وهل يقوم عموم المدلول مقام عموم اللفظ حتى يحتمل التخصيص بنيته ؟ اختلفوا فيه مع اتفاقهم على أن تعيين زمان الأكل لغو في نيته ، والصحيح إلحاق المدلول بالموضوع ، فإنه مراد اللافظ بلفظه ، فله أن يتصرف فيه بنيته بخلاف ما ذكروه من المقتضى ; [ ص: 171 ] فإنما يضمر لضرورة لصحة الكلام أو صدق المتكلم ولا دلالة للفظ عليه تنبيهات

                                                      الأول : ما حكيناه عن أبي حنيفة في هذه المسألة هو المشهور ، ولهذا قالوا : لو قال : إن تزوجت أو أكلت أو شربت أو سكنت أو لبست أو اغتسلت ، ونوى شيئا دون شيء لا يصدق ; لأنه نوى التخصيص في الفعل ، والفعل لا عموم له

                                                      قال السروجي : قد قال : أصحابنا في تخصيص الفعل أربع مسائل : إذا قال لها طلقي نفسك ، ونوى الثلاث صحت نيته ، وإذا قال : إن خرجت ، ونوى السفر صدق ، وإذا قال : إن ساكنتك في هذه الدار ، ونوى أن يكون في بيت منها غير معين صدق . وإذا قال : إن اشتريت ، ونوى الشراء لنفسه صدق .

                                                      قال : ووجه خروج هذه المسائل عن هذا الأصل أن في قوله : طلقي نفسك ، المصدر فيه محذوف ، أي افعلي فعل الطلاق ، والمحذوف له عموم ، لأنه من باب اللغة لا من باب الضرورة ، والمعنى فيه أن الأمر طلب إدخال المصدر في الوجود ، لأن الأمر طلب الفعل من الفاعل المخاطب ، بخلاف حرف المضارعة ، وهو فعل فيه طلب المصدر وإدخاله في الوجود ، فكان أدل على المصدر من مجرد الفعل كالماضي والمضارع . قال : وبالتخريج الثاني أجبت قاضي القضاة تقي الدين بن رزين الشافعي [ ص: 172 ] لما سألني عن الفرق بين طلقتك وطلقي نفسك . وأما الجواب عن قوله : إن خرجت ، أن بهذا الفعل شيوعا يقال : خرج فلان إلى السفر ، وخرج من بيته وداره من غير سفر ، فكان السفر يحتمل كلامه في المسجد ، وأما مسألة المساكنة فالمفاعلة تقع من اثنين في الدار ، وهي في بيت منها أكمل ، فقد نوى النوع الكامل فيصدق ، وأما مسألة الشراء ، فالشراء أصالة هو الأصل ، فكان أقوى ، فجاز تخصيصه من اشتريت ، ونظيره عن محمد : لا يتزوج ، ونوى عربية أو حبشية دين في الجنس ، ولو نوى كوفية أو بصرية لا يقبل ، لأن تخصيص المكان قلما يعتبر .

                                                      الثاني : أن الغزالي حكى عن الحنفية أنهم ردوا هذه المسألة إلى أنها من قبيل المقتضى ، والمقتضى لا عموم له في تقدير ما يصح به الكلام فكذلك هذه ، كما أن مثل قوله عليه السلام : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان } يستدعي مقدرا ليصح به الكلام ، ثم رد الغزالي هذا بالفرق بينهما من جهة أن المصدر في المقتضى إنما هو ليتم الكلام به ويكون مفيدا ، ولا كذلك المفعول ، فإن الفعل يدل عليه بصيغته ووضعه ، فالأكل يدل على المأكول .

                                                      وهذا صحيح أعني دلالة المصدر على المأكول مطلقا ، لكن من جهة مقتضاه لا من جهة صيغته ، وقوله : إن الفعل المتعدي يدل على المفعول بصيغته ووضعه ممنوع ، فقد قال النحويون : الأفعال كلها المتعدية [ وغيرها ] تدل على المصدر والفاعل وظرف الزمان والمكان والحال [ ص: 173 ] والمفعول من أجله وغير ذلك ، وتدل المتعدية على المفعول به ، لكن دلالتها على الأشياء تختلف ، فدلالتها على المصدر وظرف الزمان المعين دلالة بالوضع ، لأنها تدل على المصدر بلفظها ، وعلى ظرف الزمان المعين بصيغتها ، ودلالتها على الباقي بالمقتضى لا بالوضع ، ثم إن دلت على المصدر بالوضع ، فإنها تدل عليه مطلقا ، كدلالة أكل ويأكل على الأكل ، ولا تدل على أنواع الأكل كالخضم والقضم ، ولا يدل على أشخاص أنواعه كخضم زيد وقضم عمرو ، فدلالتها على المصدر المطلق وعلى تفاصيله مجمل ، ولذلك تدل بصيغتها على الزمان الماضي والمضارع مطلقا ، كدلالة أكل على الماضي ، ولا يدل على أمس المعين وعام أول ، ودلالة يأكل على المضارع ، ولا يدل على اليوم وغدا ، فدلالتها على الماضي المطلق أو المضارع المطلق نص ، ودلالتها على أجزاء كل منها مجمل .

                                                      وقد أورد على الحنفية مواقفهم على نية التخصيص فيما لو صرح بالمصدر ، فقال : لا آكل أكلا ، فالفعل دال عليه فلا فرق بين التصريح به وعدمه ، وأجابوا بأن المصدر الثابت لغة في قوله : لا آكل هو الدال على الماهية لا على الأفراد ، بخلاف لا آكل أكلا ، فإنه نكرة في موضع العموم ، فيجوز تخصيصه بالنية ، ويرد عليه بأنهم حنثوه بكل أكل فيما إذا لم يصرح بالمصدر ، ولو لم يكن عاما لما توجه ذلك ، وغاية ما قالوا في توجيهه أن قوله : لا آكل معناه لا أوجد ماهية الآكل ، وهو ينتفي بانتفاء فرد من أفراده ، وقد اعترض القرافي على فرق الغزالي بأن منع عموم المقتضى لأجل أن صحة الكلام يتم بتقدير واحد ، فيقتصر عليه ، ولا يحتاج إلى غيره ، فلا عموم ، وهكذا يقال في هذه المفاعيل ، وهذا لا يجيء على طريقة الحنفية ، فإنهم يمنعون من دلالته على مفعول ألبتة ، ثم هو بناء على أن المقتضى لا عموم له وهي مسألة خلاف . [ ص: 174 ] فوائد

                                                      الكلام المطلق إذا نوي به مقيد ، كالكلام في العام إذا نوي به الخاص ، وقد رده القرافي في هذه المسألة إلى المطلق بناء على قاعدته أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمان والأمكنة . قال : فتكون المسألة مع الحنفية في أن تقييد المطلق هل يجوز في غير الملفوظ أي فيما دل عليه التزاما أم لا ؟ وقد سبق رد هذه القاعدة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية